[تفسير قوله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وهو العلي الكبير)]
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: يقول الله عز وجل في سورة سبأ عن قوم سبأ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٠ - ٢٣].
لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قوم سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} [سبأ:١٥]، وذكرنا أنه أعطاهم جنتين من فضله سبحانه وتعالى عن يمين وشمال، وجعل لهم البساتين والأنهار والعيون، وجعل لهم من فضله سبحانه وتعالى بين كل قرية وقرية قرية أخرى، فلا يرحلون من قرية إلا وينزلون في قرية أخرى، فكان هذا فضلاً من الله سبحانه وتعالى عليهم.
وكان الواجب عليهم أن يشكروا نعمة الله سبحانه، وقد قال لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥].
أي: هواؤها طيب، وأرضها طيبة، وثمارها عظيمة طيبة، فلا هوام فيها مؤذية للناس، ولا شيء ينغص عليهم حياتهم، وإنما فيها أمان من الله سبحانه وتعالى لهم، قال سبحانه: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:١٥].
ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:١٨]، وهذه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، وهي نعمة الأمن والأمان، فقد كانوا يسيرون مرتحلين من اليمن إلى بلاد الشام في أمن وأمان، يرحلون من قرية إلى قرية فلا يحتاجون إلى حمل زاد، بل ورد أن المرأة كانت تخرج إلى القرية تحمل مكتلها فوق رأسها وتسير تحت الأشجار والثمار فتتساقط الثمار في مكتلها من غزارتها فلا تخرج من البستان إلا وقد امتلئ مكتلها من غير أن تتعب نفسها في أخذ هذه الثمار! وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى، فاشكروا نعمة الله سبحانه فالبلدة طيبة والرب رب غفور سبحانه وتعالى.
فلما رأوا هذه النعم العظيمة ازدادوا طغياناً، وأشراً، وبطراً، وقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:١٩] أي: نحن نريد أن نستمتع بأسفار بعيدة، فلا نريد أسفاراً قريبة، نريد مفاوز، ونريد صحاري، ونريد طرقاً بعيدة، وقال بعضهم: (ربُنا باعَدَ بين أسفارنا) أي: ربنا قد باعد بين أسفارنا على وجه السخرية والاستهزاء بذلك.
والنعمة إذا أتت للإنسان فلم يصنها استحق الحرمان، واستحق أن تضيع منه هذه النعمة، ومن فرط في النعمة، واستهزأ بها، وضيعها، وأتلفها، ضاعت منه النعمة ولم ترجع إليه مرة ثانية، فهؤلاء القوم كانوا أهل حضارة، فأهل التاريخ يقولون عن قوم سبأ: كانت لهم دولة عظيمة استمرت فترة طويلة جداً، وكانت دولة ذات حضارة عريقة، قامت في اليمن، قبل ميلاد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بأكثر من ألف عام، وكانت دولة عظيمة قوية.
وهنا نقول: مدينة بمعنى بلد، ولكن حين يقولون: دولة، يعني لهم حضارة، وسمعة مشهورة بين الدول التي بجوارها، ويحتاجون إليها، فكانت مثل دولة الفرس، ودولة الروم، فلما طغوا وبطروا نعم الله سبحانه، دمرهم وأهلكهم سبحانه وتعالى بأشياء عجيبة جداً، لأنه هو الذي منحهم نعمة الماء، ونعمة الهواء، والجبال العالية التي كانوا فيها، يسيل الماء بينها، وهو الذي منحهم عقولاً تفكر كيف تستغل هذه المياه لزراعة هذه الجبال العالية، ومعلوم أن المزارع التي في مستوى عال عن الأرض هي من أخصب ما يكون، وأن هواءها أفضل الهواء، فالله عز وجل أعطاهم تفكيراً يفكرون به كيف يرفعون هذا الماء إلى هذا العلو، فبنوا سد مأرب بين جبلين عظيمين، وغرسوا فوق الجبال، وزرعوا، وأنبت الله عز وجل نباتاً حسناً عظيماً، لا يوجد في أي بلد مثله، وقد امتن الله عز وجل عليهم به، فكان الواجب عليهم أن يعرفوا نعمة الله عليهم فيعبدوه، ويشكروه سبحانه، ولكنهم أبوا إلا الكفر والتكذيب، وصدق عليهم إبليس ظنه.
وإبليس ظن في آدم أنه مخلوق ضعيف، فإن الله لما خلق آدم جعل إبليس يطوف به، فيجده مخلوقاً من طين، ويجده أجوفاً، وذلك قبل أن يخلق الله عز وجل فيه الروح، فعلم إبليس: أنه مخلوق ضعيف فقال: لئن سلطت عليه لأغوينه.
لقد ظن ظناً في نفسه وهو لا يعلم الغيب، وعلم الله عز وجل من إبليس أن هذا تفكيره، لذلك كان تدبير الله عز وجل في كونه أن يهبطه إلى الأرض، وأن يجعله عدواً لبني آدم، وأن ينزل آدم إلى الأرض بخطيئة وقع فيها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما هو معروف في كتاب الله سبحانه وتعالى.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:٢٠] فقد قال لربه سبحانه: لئن سلطتني على هؤلاء، لأغوينهم، {وَلَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٧]، فإبليس لم يطلع على الغيب، وإنما قالها ظناً من عند نفسه، وقال لله عز وجل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٢] أي: أنا لن أترك هؤلاء، وهذا القول قاله بظنه، فلقد صدق إبليس على هؤلاء القوم وعلى غيرهم ظنه، وهذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، أما قراءة المدنيين والمكيين والبصريين والدمشقيين فيقرءونها: (ولقد صَدَقَ عليهم إبليس ظنه) أي: أن ظن إبليس صدق على هؤلاء فيما ظنه أنه يغوي ذرية آدم، فسلط عليهم وأغواهم: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:٢٠]، فلما قال إبليس لربه: لأغوينهم أجمعين، قال الله عز وجل: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:٤٢]، فعباد الله المؤمنون الصالحون المقربون، ليس لإبليس سلطان عليهم، بل يهديهم الله سبحانه وتعالى، ويدلهم على الخير، ويعينهم عليه، وينصرهم على عدوهم الشيطان، فيجتنبوا مكره وكيده، ويعتصموا بالله سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم الذين ينجيهم الله سبحانه وتعالى.
فالبعض وهم القلة من المؤمنين الذين عبدوا الله سبحانه، ولم يتبعوا الشيطان، {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ:٢١] أي: إبليس حين أضل هؤلاء وأغواهم لم يكن يملك أن يحولهم من شيء إلى شيء، ولذلك حين يدخل إبليس النار مع عصاة بني آدم يختصمون ويستغيثون ويسألون من يخرجهم من النار، فيقول لهم إبليس: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:٢٢]، أي: لا أنا سأستجيب لصراخكم وأخرجكم، ولا أنتم ستستجيبون لصراخي وتخرجوني من النار، فكلنا فيها والعياذ بالله، ثم يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢] أي: لم تكن لي عليكم حجة، فالحجة لله عز وجل، الذين نزل عليكم الكتاب، وأرسل إليكم الرسل، أما أنا فليس لي أي حجة عليكم، فلم أرسل إليكم أحداً وإنما وسوست لكم فصدقتموني، واتبعتموني، فيتبرأ إبليس منهم ويتبرءون منه، كما يقول الضعفاء للكبراء: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:٣١]، فيقول المتبعون الكبراء لهؤلاء الأتباع الأصغار: أنحن أضللناكم وأزغناكم عن هدى الله بعد إذ جاءكم؟ لا، بل أنتم كنتم مضلين: {بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:٣٢]، ثم إن المتبوعين يتبرءون من التابعين لهم، قال الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} [البقرة:١٦٦ - ١٦٧] أي يقول: التابعون الصغار يوم القيامة حين يرون أسيادهم تبرءوا منهم: لو أنا نعود إلى الدنيا مرة ثانية من أجل أن نتبرأ منهم كما تبرءوا منا! يقول الله عز وجل: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٧]، فالذي ضل في الدنيا قد عرف الحق، والله سبحانه وتعالى قد أعذر إلى خلقه، وأنذرهم وأنزل إليهم الكتب، وأرسل إليهم الرسل، وجعل الفطرة في قلوبهم، وجعل لهم عقولاً بحيث يعرفون بها الخطأ من الصواب، وهذه منه من الله الحكيم سبحانه.