للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (فلما قضينا عليه الموت)]

قال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:١٤] المنسأة: هي العصا التي يتوكأ عليها ويقف عليها كالعكاز التي في يده، ودابة الأرض هي الأرضة التي تأكل الخشب، فهذه أكلت الخشب الذي في المنسأة إلى أن سقط سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

وقوله: (مِنسَأَتَهُ) فيها قراءات: قراءة الجمهور: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:١٤] وقراءة هشام بخلفه، وقراءة ابن ذكون: (تأكل منسأْته) بتسكين الهمزة، وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو: (تأكل منساته).

قوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ} [سبأ:١٤] أي: وقع سليمان، وكأنه ما بين أن بدأت الأرضة في أكل العصا إلى أن أكلت جزءاً من العصا فتحرك وسقط سليمان أخذت وقتاً طويلاً، قالوا: عاماً كاملاً وهو على هذا الحال واقف يصلي، وكان قد سأل ربه سبحانه أن يعمي عليهم موته، لحكمة منه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقيل: إن الحكمة هي أن الجن كانوا يزعمون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون للإنس ذلك، فأراد سليمان أن يظهر للإنس أن الجن لا تعلم شيئاً من الغيب، وقيل: إنه سخر الجن في إكمال ما بدأه داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من بناء بيت المقدس، وكان قد أوصى سليمان بأن يكمله، فسخر سليمان الجن لذلك، فكانوا يحملون الحجارة ويقومون بالبنيان، وخشي أن تعلم الجن بموته فلا تكمل ذلك.

والغرض أن سليمان عليه الصلاة والسلام مر عليه وقت طويل، وذكروا أنه سنة وهو على هذا الحال، فأجساد الأموات تبلى، ولكن أجساد الأنبياء لا يأكلها شيء، ولا تبلى، والله عز وجل يحفظها بحفظه سبحانه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يصلي علي إلا وبلغني الملك فرددت عليه السلام -أو ما من أحد سلم علي إلا بلغني الملك فرددت عليه- فقالوا: يا رسول الله! كيف ترد عليه وقد أرمت؟) (أرم) يعني أكلتك الأرض ولم يبق منك شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) إذاً ليس النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كل الأنبياء حرم الله عز وجل على الأرض أن تأكل شيئاً منهم، فلا يتغيرون بموتهم عليهم الصلاة والسلام.

فالغرض أن نبي الله سليمان ظل قائماً في مصلاه يصلي وفي يده منسأته، ومات وهو على هذا الحال، وقدرة الله سبحانه وتعالى حفظته فلم يسقط، والجن تعمل فيما أمر به سليمان، ويتعبون ويذهبون ينظرون إليه وهو في مصلاه قائم يصلي، فيرجعون مسخرين في العمل ذاهبين راجعين وسليمان على حاله إلى أن شاء الله عز وجل أن تأكل الأرضة هذه العصا فيسقط سليمان عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} [سبأ:١٤] أي: ظهر كذبهم فيما يدعونه من معرفة الغيب.

{تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:١٤] فلقد كانوا مسخرين عاماً كاملاً يعملون وهم يخافون من سليمان أن يعاقبهم ويعذبهم فيعملون بأمره وهو ميت عليه الصلاة والسلام، فتبينت الجن أي ظهر لهم أنهم كذبوا وأنهم لا يعرفون شيئاً من أمر الغيب.

وقوله: (تَبَيَّنَتِ) هي قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب (تبينت) على البناء للمفعول، بمعنى: ظهر أمر الجن للناس، فكأنه تبين للناس أن الجن لا يعرفون شيئاً من الغيب، فهذا راجع إلى الناس.

فهذه هي قصة سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>