للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الزخرف: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف:٥٧ - ٦٢].

لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى قبل هذه الآيات قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أن فرعون استخف قومه فأطاعوه فيما كان يقوله لهم وأراد أن يهلك موسى ومن معه فإذا بالله عز وجل يغضب عليه وينتقم منه وممن معه قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:٥٥] أي: فرعون وجيشه وجنوده فأغرقناهم أجمعين، {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} [الزخرف:٥٦]، أي: مقدمة يتقدمون القوم الآخرين، فجعلناهم مقدمة لمن أتوا من بعدهم واتبعوا طريقهم الباطل وضلالهم، فهم شر سلف لشر خلف من بعدهم فيكون الخلف مثلهم أشراراً يقتدون بهم فيستحقون النار.

فلا تتكبر مثلما تكبر فرعون وإلا نالك ما نال فرعون، فيضرب به المثل في الشر وفي الكبر وفي الغرور وفي عبادة غير الله سبحانه وفي زعمه أنه أكبر من غيره، وأنه لا يوجد شيء أكبر منه وفي كذبه حين يقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وحين يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] وحين يكذب فيصدقه قومه، فالله عز وجل جعله مثال شر لمن يأتي بعده.

ثم ذكر {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:٥٧] إذاً: ذلك مثل شر وهو فرعون، وهذا مثل خير وهو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧]، الكفار ذكروا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأرادوا أن يضربوه مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا المسيح الذي تزعم أنه نبي وقد عبدته النصارى فأنت تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨] فالمسيح عُبد من دون الله سبحانه إذاً: فهو في النار.

أرادوا أن يقولوا ذلك وأن يضربوا للنبي صلى الله عليه وسلم الأمثال، وتجاهلوا لغتهم العربية التي يتكلمون بها، وأعجبهم ما يقولون.

فقريش قالت: إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد المسيح ابن مريم، وهذا من ضمن إفكهم وكذبهم عليه فهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يزعمون أنه يريد أن يعبدوه مثلما النصارى عبدوا المسيح ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

وبعض هؤلاء الكفار لما تكلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن آلهتنا فيها خير نزل القرآن يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨] وما يعبدونه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى من أصنام.

و (ما) يراد بها غير العاقل وإذا أراد العاقل قال: ومن تعبدون فهذه هي لغتهم، فقال لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨] فسكتوا وما قدروا أن يردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجعوا إلى قومهم فإذا برجل منهم اسمه ابن الزبعرى وكان شاعراً من شعرائهم وجاهلاً من جهلائهم فسمع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما إني لو كنت معه لخاصمته، أي: جادلته وكنت سأقول: إنك تقول: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) فالنصارى عبدوا المسيح ابن مريم وحسب قولك: فالمسيح ابن مريم خالد في جهنم؛ لأنه معبود من دون الله، وكأنه تجاهل وتغافل عن قوله: (وما تعبدون) وخلطها بـ (من تعبدون) ولو فرض أن وما تعبدون كانت تعم الجميع العاقل وغيره، فيقال وما تعبدونه إن رضي بعبادتكم وأما المسيح ابن مريم فتبرأ من عبادتهم له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأمرهم أن يعبدوا الله، وأخبر الله عز وجل أنه عبد من عباد الله سبحانه تبارك وتعالى، فلما أعجبهم ذلك وأرادوا أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك ذكر الله سبحانه: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧] وقوله: (يصدون) قرئت بكسر الصاد وبضمها، فـ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة وكذلك يعقوب يقرءون: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧] وباقي القراء يقرءونها: (إذا قومك منه يصُدون).

يصدون: بمعنى يضجون، ويفرحون؛ بأنهم وجدوا شيئاً يخاصمون فيه النبي صلى الله عليه وسلم ففرحوا بهذا الشيء الذي يقولونه، ورفعوا أصواتهم مستحسنين بجهلهم ما قاله، (إذا قومك منه يصدون) وهذا معنى القراءة الأخرى.

أما القراءة الأولى التي هي بكسر الصاد يعني: يعرضون عن سبيل الله وأعرض أي: منع غيره أن يدخل فيه فكأنهم يصدون عن دين رب العالمين بكلامهم الذي يقولونه ويعرضون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>