أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأمرين: فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:٩٦ - ٩٨]، فعلمه كيف يدعو صلوات الله وسلامه عليه، فبعد أن قال:{رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:٩٤]، وسأل ربه ألا يكون مع الظالمين، قال الله له:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[المؤمنون:٩٦]، وهذا تعليم من الله سبحانه، أي: ادفع بالشيء الحسن الشيء السيئ، فمن أساء إليك فأحسن إليه.
وقد علم الله نبيه في سورة الأعراف الدفع بالتي أحسن أيضاً، فالإنسان المؤمن يدفع اعتداء الناس بالإحسان لهم؛ لأنه يرغب في هداية هؤلاء، فإذا هدى الله عز وجل على يديك إنساناً من الخلق فلك أجر عظيم عند الله سبحانه، فعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس بالحسنى، وأنه إذا عامل بالحسنى ودفع بالتي هي أحسن فالله عز وجل يأجره على ذلك ويدافع عنه، وهذه الصفة تشمل التعامل مع الكفار ومع المسلمين، فالكافر في البداية يُدفع بالتي هي أحسن ترغيباً له في الإسلام، فإذا أصر على ذلك فالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأيضاً ادفع بالتي هي أحسن لعلهم يرتدعون، وقد كان بعض الأعراب يسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يحلم عليه ويتحمل منه، وشيئاً فشيئاً حتى يهدي الله هذا الأعرابي للإسلام.
وقد رأينا كيف فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ولما وصل إلى هنالك وقام مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم يؤذن، وإذا ببعض الناس يستهزئ بمؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم أبو محذورة، وأبو محذورة كان صوته جميلاً، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم الاستهزاء بمؤذنه، وكان يستطيع أن يأمر بقتل هذا الكافر الذي يستهزئ، ولكنه نادى عليهم ففر من فر وجاء أبو محذورة، فقال صلى الله عليه وسلم:(أيكم كان أرفع صوتاً؟)، أي: من الذي سمعت صوته، ثم علمه رسول الله ألفاظ الأذان، فأسلم الرجل وصار المؤذن في مكة، فهنا يتحقق قوله تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}.
وهذا أدب من النبي صلى الله عليه وسلم ولطف منه، عندما يأتي أبو محذورة ويعلمه رسول الله وهو شاب ولم ينهره صلى الله عليه وسلم، فتأدب الرجل وصار بعد ذلك مؤذن مكة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال الله سبحانه:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذا أمر بالصفح وأمر بمكارم الأخلاق، وفي الحديث:(إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة)، فالإنسان برفقه يدعو الناس إلى ربه سبحانه، ولكن قد يصل بالرفق وبالعنف إلى نتيجة واحدة، وذلك عندما يدعو إنساناً برفق فيصل به إلى أن يصير مؤمناً، أو يدعوه بعنف وبغلظة وشدة ويصل به إلى أن يكون مؤمناً، فأي الوصفين يكون أعظم لهذا الإنسان وأكثر أجراً عند الله؟
الجواب
أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، فالإنسان برفقة يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في رفقه بالخلق.
قال سبحانه:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم لعلك تتألف هؤلاء، وقد لا يتألف هؤلاء، ولكن قد يتألف من وراءه كأهاليهم وأقوامهم عندما يرون أن فلاناً أساء ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم حلم عنه، فعندما يقولون: إن الرجل على حسن خلق فلماذا لا نتبعه؟ والإنسان عندما يرى الكافر وعناده قد يقول: لن أدفع إلا بالأسوأ، فهذا الكافر لا يستحق الإحسان، ولكن أمر الله مقدم إذ قال:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ولعله صلى الله عليه وسلم يقول: هؤلاء يكفرون، ويقولون: كذا، فقال تعالى:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، أي: نحن قد حلمنا عنهم، فاحلم أنت لعل الله عز وجل يهديهم على يديك.
فهذا الأدب لا بد أن يكون في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا لم ينفع واستمر هؤلاء على كفرهم وعنادهم فالجهاد بالسيف الذي أمر به النبي صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك، قال تعالى:{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي: من الشرك والتكذيب.