يقول الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين بالتبع:{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}[الفرقان:٤٥ - ٤٦].
السورة مكية، وفيها خصائص السور المكية من تقرير أمر العقيدة: الإيمان بالله، الإيمان بالملائكة، الإيمان برسل الله سبحانه، كما أن فيها ذكر صفات رب العالمين سبحانه وتعالى، وفيها: تقرير توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وفيها ضرب الأمثال، والحجج والبينات، وفيها الآيات التي تخاطب عقول الناس، {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}[الفرقان:٤٥]، أي: هذا الظل الذي تراه انظر كيف مده الله سبحانه وتعالى! فيكون الظل ثم يتناقص شيئاً فشيئاً، وأعلى ما يكون الظل في الليل، قال العلماء: الظل: الليل، وفرق البعض فقال: الظل ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، ثم بعد ذلك تأخذ الشمس من الظل شيئاً فشيئاً حتى تغرب فيكون الليل بعد ذلك.
أما علماء الفلك فيقولون: الظل: هو الليل، يأتي الليل فيسود الكون كله، ثم تأتي الشمس تنقص من الليل شيئاً فشيئاً فيتناقص الظل، ويبدأ وقت الظل من الزوال، فقبل صلاة الظهر تكون الشمس فوق الرءوس، ويكون الكل في شمس وفي ضياء، ثم تزول الشمس شيئاً فيبدأ الظل يكبر شيئاً فشيئاً، وكلما مالت الشمس ناحية الغروب كلما انتشر الظل إلى أن يدخل الليل فيستوعب الظلام كل الكائنات.
فالإنسان يجب عليه أن يتفكر ويسمع ويعقل آيات رب العالمين، فلو شاء سبحانه لثبتت الشمس في مكانها وبقي النهار أبداً، فمن غير الله عز وجل يأتيكم بهذا الليل الذي تستريحون فيه؟ وإذا انعكس الأمر من إله غير الله يأتيكم بنهار ويأتيكم بضياء؟ وهنا يذكر لله لنا المعنى نفسه: لو أن الله سبحانه ثبت هذا الظل فدام الظل وانتهت الشمس فمن سيأتيكم بضياء؟ ثم قال سبحانه:{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}[الفرقان:٤٥]، فلا يعرف الظل حتى تشرق الشمس فتفرق بين هذا وذاك، ولذلك قالوا: والضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء، فلولا النهار لما عرفنا فائدة الليل، ولولا الليل لما عرفنا قيمة النهار، فالله جعل ليلاً ونهاراً، أسود وأبيض وجعل أشياء مختلفة لولا هذا الاختلاف لما تبين لنا جمال هذا الشيء الذي أوجده الله عز وجل لنا، فالإنسان في النهار يخرج إلى معاشه، ينظر، ويقرأ، ويكتب، ويرى في النور ما لا يراه في الظلام، فهو في النهار يتعب ويعمل، والجسد يحتاج إلى الراحة، ولو ظلت الشمس ثابتة فمن أين تأتي الراحة؟ إذاً: لابد من ليل، لابد من سكون حتى يستريح الإنسان، فيأتي الليل فيستشعر جمال الليل، وحين يتعب ويستريح يستشعر جمال الراحة بعد تعبه وهكذا، فجعل الله عز وجل الليل والنهار يتقلبان على الإنسان، يستريح في الليل ويعمل في النهار، ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وجعله لك آية تستظل به من الشمس، {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا}[الفرقان:٤٥]، ثابتاً قليلاً أو كثيراً أو ظلاماً، قال:{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا}[الفرقان:٤٥]، فالشمس تقبض الظل شيئاً فشيئاً حتى إذا كان قبيل الزوال زال الظل كله، ثم بعد ذلك ينتشر الظل.
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}[الفرقان:٤٦]، أي: ليس فجأة، ولكن الله عز وجل يجعل الإضاءة شيئاً فشيئاً، فالسماء بعد أن كانت سوداء يكون لونها بنياً ثم تبيض وتطلع الشمس شيئاً فشيئاً من رحمة رب العالمين سبحانه، ولو شاء لجعل الليل يأتي فجأة والنهار يذهب فجأة ولكنه سبحانه يقبضه شيئاً فشيئاً حتى لا ينزعج الإنسان ويتحير في ذلك، فخروج الليل من النهار والنهار من الليل يكون تدريجياً.
والزروع منها ما ينتفع بالظل ومنها ما ينتفع بالشمس، ولو دامت عليه الشمس لفسد، ولو دام عليه الظل لفسد، فجعل الله عز وجل الظل والشمس، وجعل الليل والنهار رحمة منه سبحانه.