بدأت السورة بذكر الحروف المقطعة قال تعالى:{الم}[الروم:١] وهذه من حروف اللغة العربية التي يتحدى بها الله عز وجل الخلق جميعهم، والتحدي: أن هاتوا كتاباً مثل هذا القرآن فيه مثل هذا الإعجاز العظيم وهو من جنس الحروف التي تنطقون بها ((الم)).
وذكرنا فيما مضى فقلنا: إن الغالب أنه إذا ابتدأت السورة بحروف، تتكرر هذه الحروف في هذه السورة، فيكون نسبة تكرار هذه الحروف وخاصة الحرف الأول منها أعلى نسبة من نسب التكرار في السورة نفسها، فيكون الألف أعلى حرف تكرر في هذه السورة، يليه اللام، ثم المجموع من الألف واللام والميم يكون أعلى ما تكرر في هذه السورة.
وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الذي يتحدى الله سبحانه وتعالى الخلق أن هاتوا كتاباً مثل هذا الكتاب، أو سورة مثل هذه السورة، فيتجلى في السورة دقة الأحكام التي فيها، وجمالها في بلاغتها وفصاحتها وإتقانها، وفي التشريع الذي تضمنته آياتها، وما فيها من إعجاز علمي، ومن نبوءة صحيحة صادقة، كالإخبار بأخبار صادقة سابقة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، كل ذلك وغيره كثير، فتجد فيه إعجاز هذا الكتاب العظيم الذي يقول فيه الإنسان المنصف إذا قرأه: يستحيل أن يكون هذا من قول البشر.
كما أن من فوائد الحروف المقطعة في أوائل السور أيضاً: شد وجذب الانتباه، فالعرب لم يكونوا معتادين على ذلك، فلم يسمع العربي أحداً يقول له: الم، فإذا سمعها جهل ما الذي يقصده قائلها، فانتفض ليسمع ما الذي يريده؟ وذلك كما يسمع الإنسان صوتاً غريباً لم يعتد على سماعه، فيجتهد أن يصغي إليه، على خلاف الصوت الذي قد اعتاد أن يسمعه، فقد يمر على أذنه من غير أن ينتبه إليه.
ومثال ذلك: ما يحدث لو مر بكم القطار وأنتم تعرفونه، فإنه كلما مرّ كأنه لم يمر، ولا ينتبه لمروره أحد منكم بخلاف إنسان كانت هذه هي أول مرة يرى فيها القطار، فإنه إذا مر القطار سيجتهد أن ينظر إليه، وسيتملكه العجب عند رؤيته له، فكذلك عندما يأتيهم من الله سبحانه تبارك وتعالى شيء لم يعتادوا عليه كقوله سبحانه:{الم}[الروم:١] فإنه يشدهم فيسألوا: ماذا تعني هذه الحروف؟ وقد يحرصون على أن يسمعوا ما يقوله صلى الله عليه وسلم، ليعرفوا ما يريد من هذه الأحرف، فكأن القرآن يقول لهم: تعالوا واسمعوا {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:٢ - ٣]، وعند سماعهم يزدادون عجباً على عجب، فيتساءلون: ما الذي تقوله؟ وهل ما تخبر به من أن الروم ستنتصر على فارس حقاً؟ فيعلق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بأذهانهم، ويظلون يتوقعون ويتحدثون: هل سيصدق ما أخبر به القرآن أم أنه سيكذب؟ أما المؤمنون فهم جازمون بصدق كلام رب العالمين.