[تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:٥٥].
في هذه الآية الكريمة وعد من الله سبحانه وتعالى للذين آمنوا به سبحانه، وعملوا الصالحات التي أمروا بها بالتمكين في الأرض والاستخلاف.
قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:٥٥]، فهذه ثلاثة أشياء وعد الله عز وجل بها هاهنا: الاستخلاف في الأرض، فيعطيهم الله عز وجل الحكم فيحكمون بشرعه سبحانه وتعالى، فقد آمنوا وعملوا الصالحات وتربوا على العقيدة الصحيحة وعلى العمل الصالح، فاستحقوا أن يسودوا العالم، وأن يحكموا غيرهم، فوعدهم بالاستخلاف، ووعدهم بأن يمكن لهم هذا الدين العظيم الذي ارتضاه لهم.
قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:٥٥]، والخطاب هنا لأصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:٥٥].
والمعنى: أنه سيعجل لكم هذا ما استمسكتم بدين الله، وما استمسكتم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يؤخره عنكم، وكان وعد الله الحق سبحانه وتعالى، فرأى الصحابة ذلك مباشرة، فهم أولى الناس بأن يستخلفوا، ولذلك خير القرون وأحبها إلى الله عز وجل هم قرن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه على هذا الدين العظيم.
قال: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
فإذا كان الله عز وجل وعد المؤمنين فالوعد عام، فإذا نص على هؤلاء فالوعد عاجل في التنفيذ: أنه يا من أنتم آمنتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وابتليتم وتعبتم وأوذيتم في سبيل الله عز وجل سنمكن لكم، فكان الوعد من الله عز وجل، وكان التنفيذ في حياة النبي صلوات الله وسلامه عليه، والله لا يخلف الميعاد.
فأخبر هنا أنه ليستخلفنهم فكانت الخلافة للنبي صلى الله عليه وسلم، فحكم بدين رب العالمين، وجاء الخلفاء الراشدون من بعده فحكموا بشرع الله، ومكن الله عز وجل لهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وعده للمؤمنين: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فالآية وعد من الله عز وجل، والحديث وعد من النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث في صحيح مسلم وفيه: أن الله سيتم هذا الأمر بعدما كانوا في ضعف، وفي قلة، وفي ذلة، وفي خوف، وفي أذى من الكفار، فالله يعدهم أن سنمكن لكم وستكونون أقوياء، وسيسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله سبحانه، يعني: أنه في غاية الأمان وليس خائفاً من أحد إلا الله سبحانه وتعالى، والذئب على غنمه وهذا خوف الطبع، فإذا كان معه غنم فهو ليس خائفاً من أحد أن يسرقها؛ فبالإسلام استتب الأمن والأمان، لكنه يخاف الخوف الجبْلي الطبعي: أن الذئب يأكل الغنم.
وحدث مثل هذا الأمن في يوم من الأيام، بل وفي أعوام كثيرة طالت واستقر الأمن وحدث وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وذلك لما فعلوا ما أمر الله عز وجل به، فقال: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥] يعني: المؤمنين السابقين قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم قد استخلفهم الله سبحانه، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:٥].
فمنّ عليهم وجعلهم -بعدما كانوا عبيداً- سادة، وبعدما كانوا مقهورين أذلة جعلهم منصورين أعزة، والفضل بيد الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:٥٥]، فدين الإسلام في أيام مكة لم يكن ممكناً له، فكان المشركون يؤذون المؤمنين، ويؤذون النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لما هاجر النبي إلى المدينة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، مكن له ربه سبحانه وتعالى، أي: نصره، وجعل له المكانة في الأرض.
قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:٥٥].
وهو الخوف الذي كانوا فيه من المشركين ومن أذى الكفار، والخوف الذي كانوا فيه من غيرهم، فالله عز وجل يذكر أنه سيبدل هذا الخوف إلى الأمن والأمان بالقوة التي يعطيهم الله عز وجل، وبالعلم والعزة التي يعزهم الله عز وجل بها، بالضعف الذي يصيب أعداءهم، وكيف نصر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فكان من جنود النبي صلى الله عليه وسلم التي جعلها الله عز وجل ليمكن له الرعب في قلوب المشركين.
قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران:١٥١].
إذاً: فالإنسان الكافر المشرك يجعل الله عز وجل في قلبه الرعب والخوف، فإذا به يخاف من النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاف من المؤمنين، وهذا من تمكين الله عز وجل لدينه.
والنصر له أسباب مادية، وأسباب معنوية، فمن أسبابه المادية قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:٦٠] , وقال: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:٦٦].
إذاً: فالقوة المادية: هي قوة السيف، وقوة العدد.
وقوة الإيمان في قلوب المؤمنين من القوى التي يجهز المؤمنين أنفسهم بها، فالمؤمن يؤمن بالله، ويثق في نصر الله، والله يزيده إيماناً، ويزيده قوة، ويجعل قلبه ثابتاً، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧]، فيربط على قلوب المؤمنين ويجعلهم في ثبات ولا يخافون ولا يبالون بأعدائهم.
والكافر يجعل الله عز وجل الخوف في قلبه، فأقل شيء يفزعه ويخيفه، ولذلك أخبرنا عن بني إسرائيل فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:١٤].
أي: لا يجتمعون لقتالكم وأنتم جيش وقوة، فهم يخافون منكم، إلا إذا فقدتم أسباب النصر فلم توجد قوة عندكم: لا قوة بدنية، ولا قوة عقدية، ولا قوة معنوية، فعندئذ يبتدئ الكافر يتحرش بكم.
فأهل الكتاب يخافون من المؤمنين، وقد جعل الله بأسهم بينهم شديداً طالما كان المؤمنون متمسكين بعهد الله سبحانه وبدينه، فالله يلقي في قلوب الذي كفروا الرعب، قال سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر:١٤].
إذاً: لما يكون عندهم حصون، وأما وجهاً لوجه فيخاف إذا كان المؤمن في قوة، وعنده جيش، وعنده سلاحه.
ولذلك ترى هؤلاء بدباباتهم وبمدافعهم يجرون وراء الصبيان الذي يحذفوهم بالحجارة في فلسطين، فهو يخاف أن يجري وراءه بحجر مثله، لكنه يجري وراءه بمدفع، فهذا يحذفه بحجرة، وهذا يرميه بالرصاص، فطالما هو في دبابته فهو متحصن بحصنه وسيقاتل، قال الله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:١٤] أي: من وراء سواتر، أو من وراء جدار، لكنه يخاف من المواجهة وذلك مما جعل الله عز وجل في قلبه من رعب ومن خوف.
قال الله سبحانه للمؤمنين: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:٥٥].
فتبديل الخوف الذي أنت فيه أمناً هو من الله سبحانه، ويقلب الأمر على هؤلاء الكافرين، فالكافر مستقر في نفسه أنه سينتصر، فيزعزع الله عز وجل هذا في قلبه، ويزلزل قدمه، ويبعد عنه أسباب النصر، ويهزمه سبحانه وتعالى، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] أي: أنت أخذت بالأسباب وأنت ترمي، فعليك الرمي فقط، والذي يوصل هذا الشيء ويجعله يصيب ويجعله يقتل هو الله سبحانه وتعالى.
فالله يطمئن المؤمنين ويقول: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:١٢]، فلا تخف من الكافر، واقدم عليه واقطع رقبته ويده والله معك.
هذا إذا استمسك المؤمنون بدين رب العالمين سبحانه يمكنهم وينصرهم.