[تفسير قوله تعالى:(أوفوا الكيل ولا تعثوا في الأرض مفسدين)]
قال الله تعالى حاكياً قول شعيب لقومه:{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[الشعراء:١٨١ - ١٨٣]، فهذه هي جرائم هؤلاء الأقوام، وهذا هو الذي كانوا يصنعونه، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيهم عليه الصلاة والسلام:((أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ))، فهذا يدل على أن عندهم الثمار وعندهم الزروع، فهم يبيعون هذه الزروع والثمار إما عن طريق الكيل وإما عن طريق الوزن، وكانوا يخسرون ويطففون المكيال والميزان، فكأنهم أول من صنعوا ذلك، فحذرهم نبيهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من هذا الصنيع الفظيع الذي وقعوا فيه، فقال لهم:((أَوْفُوا الْكَيْلَ)) أي: احذروا من عدم الوفاء بالكيل، ((وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ))، فهذه جريمة يستحق الناس عليها عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}[الشعراء:١٨٢] أي: زنوا بالعدل، و (القسطاس) فيه قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف (بالقِسطاس) بكسر القاف، وقراءة باقي القراء:(وَزِنُوا بِالْقُِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي: بميزان العدل، والمعنى: وزنوا بالعدل حين تعطون وتبيعون للناس.
قال:{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}[الشعراء:١٨٣] أي: لا تنقصوا الناس أشياءهم، بخس الإنسان قدره ونصيبه، أعطاه الحظ غير الوافي، وأعطاه الشيء الناقص، فهو بخسه واستنقص مما يعطيه ظلماً وعدواناً، فهؤلاء كانوا يظلمون الخلق، فإذا كالوا للناس بخسوا الناس أشياءهم، ويأخذون الشيء الجيد ويعطون الشيء الرديء، ويوهمون من يعطونهم أنهم أعطوا أفضل الأشياء، فقال:((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)) أي: لا تظلموا الناس، والإنسان من طبيعته الطمع والشح، قال تعالى:{وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}[النساء:١٢٨]، فمن طمع الإنسان أنه إذا اكتال لنفسه أخذ من الناس الشيء الكثير وأخذ وافياً، فإذا أعطى لغيره أعطى الأقل.
وقد حذرنا الله عز وجل في القرآن من ذلك فقال:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين:١ - ٢] أي: إذا طلبوا من الناس الكيل واشتروا منهم فإنهم يستوفون حقهم ويأخذونه وافياً، لكن لو كانوا هم الذين يبيعون للناس بخسوهم حقهم، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:٣].
فهنا قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام:((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)) أي: لا تظلموا الناس أشياءهم، ((وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) قوله: (ولا تعثوا) عثا يعثوا عثواً أي: اشتد فساده، وليس فساداً عادياً، بل أشد الفساد.