[تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي)]
وهذا مثال آخر قال سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:٤٠]، إذاً: فالكفار أعمالهم مثلها الله عز وجل لنا بهذين المثلين: بمثل السراب، أي: أنها لا شيء، وبمثل الظلمات، فقال: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:٤٠]، فأعمالهم مع كفرهم لا نجاح فيها ولا قبول لها، بل هم في ظلمات الكفر والشك والحيرة، وفي ظلمات المعاصي في الدنيا وكذلك يوم القيامة، فيمثِّل لهم هذه الأعمال وهم في حيرة وشك وفي كفر.
وانظر إلى هذه الصورة قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} [النور:٤٠]، فهذه الظلمات في بحر شديد غوره وعميق جداً، وليس في أي بحر، ولكن قال: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:٤٠] أي: في بحر عميق بعيد غوره بعيد قاعه يغشى هذا البحر {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:٤٠].
وهنا في هذه الآية يذكر الله عز وجل موجاً فوقه موج آخر، وقد كانوا في الماضي يقولون: موج من فوقه موج، أي: من ورائه موج.
إذاً: موج عالٍ وراءه موج عالٍ مثلما ترى البحر عندما يكون مرتفعاً عالياً، فتأتي موجة تلو الأخرى، فكانوا يقولون ذلك، ولكن مع تقدم علوم البحار ونزول الناس بآلاتهم إلى أعماق البحار وجدوا تطبيقاً حقيقياً لهذه الآية، وأنه {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:٤٠]، وليس موج، من وراءه موج فقالوا: هذا لا يكون إلا في البحر العميق.
قالوا: وهذه من معجزات كتاب رب العالمين سبحانه التي تبين أنه جاء من عند رب العالمين، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم ينزل بحراً قط، ولو كان عند بحر فإنه يكون بحراً سطحياً، وأما البحر العميق فلا، لا هو ولا أحد من أصحابه أبداً نزلوا بحراً عميقاً، ومن يقدر على ذلك؟! قالوا: أقل أعماق الموج الداخلي في البحر مائتا متر من سطح البحر، قالوا: ويكون موجاً داخلياً في البحار العميقة جداً كالمحيطات، فتكون أمواج مختلفة جداً في العمق الذي لا يقدر الإنسان أن يصل إليها في الغطس في البحر، وأكبر مسافة ينزل إليها الإنسان ولا يؤذى بنزوله إليها حوالي ثلاثين متراً أو سبعة وثلاثين متراً، فهذه أقصى مسافة يقدر الإنسان أن يصل إليها من غير آلات ولا شيء.
وإذا نزل أكثر من ذلك فإنه يزيد عليه ضغط الماء فتتحول الغازات الموجودة في دماغ الإنسان كغاز النيتروجين مع شدة الضغط إلى سائل، فإذا خرج وخف الضغط رجع إلى غاز، فيفور دماغه ويموت.
لذلك فهؤلاء الذين ينزلون أقصى من ذلك لا بد أن تكون معهم آلات حتى لا يحدث لهم ذلك، وإذا أرادوا الصعود لا يصعد مرة واحدة، ولكن يصعد مسافة قليلة وينتظر فترة طويلة، ومن ثم يطلع مسافة ثانية وينتظر فترة طويلة، ويحتاج أن تكون معه أنبوبة أكسجين من أجل أن يتنفس، والغواص يعلمونه ذلك حتى لا يصاب بأذى.
فهنا الآية تخبر عن هذا الموج الذي تحت أعماق مائتي متر عن سطح الماء أنه موج وفيه ظلمة، وهذا فعلاً هو الحاصل، فالمكان الذي فيه الموج الداخلي في أعماق المحيطات لا تجد شيئاً من النور، ولذلك الكائنات الحية التي في هذا المكان لها خصائص أخرى غير الكائنات التي فوق السطح القريبة من الناس، فتجد أن بعض الأسماك ليس لها عيون أصلاً؛ لأنها ليست محتاجة للرؤية بداخل هذه الأعماق المظلمة.
فالله عز وجل يخبر عن هذه الأعماق أنها ظلمات، فإذا نزلت تسبح في البحر مترين مثلاً تجد أشعة الشمس غير منكسرة، فترى ما حولك، ثم تنزل تحت جداً فتجد الظلمة بالداخل التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} [النور:٤٠]، وليس هذا في أي بحر، وإنما هو البحر العميق {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور:٤٠]، وهو موج داخلي قال: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:٤٠]، وهو موج سطحي، فيقولون: هذا الموج السطحي مع حركة الماء يكسر أشعة الشمس، ولذلك عندما تصنع شيئاً داخل الماء ومن ثم تحرك الماء فوقه فإنك لا ترى هذا الشيء الداخلي؛ لانكسار الأشعة، فهذا الموج الداخلي في ظلمة.
ثم قال: {مِنْ فَوْقِهِ سحاب} [النور:٤٠] إذاً: فوق ذلك سحاب أيضاً فاليوم شاتي والسماء مظلمة وفي سطح البحر موج عالٍ، وداخله موج آخر، قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:٤٠]، فالذي في مثل هذا المكان العميق في الماء وفي مثل هذه الظلمة ظلمة السحاب، وظلمة السماء، وظلمة الليل، وظلمة قاع البحر، إذا أخرج يده لا يكاد يراها.
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠]، إذاً: هذه الظلمات نطبقها على حال الإنسان الكافر فهو في ظلمة كفره، وفي ظلمة حيرته وتخبطه، وفي ظلمة شكه في قلبه، فلا يطمئن الكافر أبداً، فمهما ظهر أمام الناس أنه مطمئن، وأنه ساكن، ولكن قلبه ممتلئ حيرةً بخلاف الإنسان المؤمن.
والإنسان المؤمن وإن تكالبت عليه مصائب الدنيا، فهو مطمئن بالله سبحانه وتعالى، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتطمئن القلوب بذكر الله والركون إليه؛ قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، فالمؤمن يعرف ربه، ويعرف مصيره وأنه راجع إلى الله؛ لذلك إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذه كلمة عظيمة يستحق عليها الإنسان المؤمن الثواب العظيم، فإذا قال: إنا لله في وقت المصيبة ووقت البلاء يعني: ماذا حصل: أخذت مني الدنيا أو أخذ مني شيء منها، فأنا كلي لله سبحانه وتعالى، وأمري راجع إلى الله، فهو مطمئن بالله سبحانه.