للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (ابنوا له بنياناً فألقوه فجعلناهم الأسفلين)

إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يناقش هؤلاء فلا يستطيعون أن يردوا عليه بالحجة، فيهزمهم في الرأي فيريدون أن يغلبوه بشيء ثانٍ غير الرأي، طالما ليس هناك فائدة في الرأي، فيقولون: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:٩٧] يعني: يبنون له قرناً كبيراً جداً من ورائه سور عظيم ويضعون فيه الحطب والخشب حتى يوقدوا ناراً عظيمة فيحرقوا بها إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: {فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:٩٧] في ظنهم أنها جحيم، والجحيم: النار المستعرة، المتوقدة، فقالوا: ألقوه في الجحيم.

فكانوا جميعهم يجمعون الحطب والحجارة ويلقونها في هذا المكان الذي سيرمون فيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الصافات:٩٨] أي: كادوا لإبراهيم، واحتالوا له الحيل بحيث إنه يكون في بناء محكم، ويرمونه من بعيد بالمنجنيق داخل هذه النار.

وهزمهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم الأخسرين، وجعلهم الأسفلين، ولم ينصرهم لا في حجة ولا بغلبة من قوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى، إذ قال الله سبحانه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩].

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في قول الله سبحانه: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣].

وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل)، أي: يكفيني الله.

وكان كل من يعرض على إبراهيم المساعدة يقول: الله الذي يكفيني لا أحتاج إلى أحد إلا إلى الله، وكان آخر ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يلقى في النار: حسبي الله ونعم الوكيل.

جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بنوا حائطاً طوله في السماء: ثلاثون ذراعاً) يعني: حوالى خمسة عشر متراً، لكي يملئوه بالحطب، ويرموا فيه إبراهيم من بعيد على نبينا وعليه الصلاة والسلام، (فلما ألقوه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل).

وروى ابن ماجة، وأحمد من حديث نافع عن سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة (أنها دخلت على عائشة فرأت في بيتها رمحاً موضوعاً، فتعجبت فقالت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ)، والوزغ: عبارة عن نوع من الأبراص وهو سام فالسيدة عائشة مجهزة الرمح في بيتها رضي الله عنها لتقتل به الأوزاغ، وعللت فقالت: (فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن إبراهيم لما ألقي في النار لم تكن في الأرض دابة إلا أطفأت النار غير الوزغ).

فالبشر كفروا بالله سبحانه، وجمعوا الحطب ليحرقوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وما من دابة إلا وتذهب لتطفئ عن إبراهيم هذه النار التي أوقدها هؤلاء، إلا هذا الوزغ السام، كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقاً أو فاسقاً، ولكن أمر الله أسرع من هذا كله، فقد أتى أمر الله وتغيرت طبيعة النار نفسها، قال تعالى: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:٦٩]، ولو قال: {كُونِي بَرْدًا}، لكانت باردة فآذته ببردها، ولكن قال: {بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، فكانت النار فيها السلامة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام باردة عليه، وهنيئاً له هذا الوقت الذي كان فيه.

ونجاه الله من أعدائه، إذ هم لا يقدرون أن يقربوا من النار، ولو كانت النار: {بَرْدًا وَسَلامًا} على الجميع لدخلوا إليه وأرادوا قتله بداخلها.

ولكن النار التي أججوها خافوا أن يقربوا منها وكانت: {بَرْدًا وَسَلامًا}، عليه، وهم يرونه وينظرون إليه من بعيد وهو في هذه النار في عيشة هنية عليه الصلاة والسلام، ويتعجبون لأمره حتى خرج إليهم يمشي من هذه النار ولم تحرق منه إلا ما كان أغلالاً وقيوداً عليه، وخرج سليماً معافى، فكان من الله عز وجل المعجزة العظيمة في ذلك.

فقوله تعالى: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:٩٨] أي: المغلوبين، المقهورين بالحجة وبأمر الله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>