تفسير قوله تعالى:(ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً برزخاً وحجراً محجوراً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:٥١ - ٥٣].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قادر على أن يبعث في كل قرية وفي كل بلد منذراً، ولكنه شاء سبحانه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وحده هو الرحمة للعالمين، فكان هو المرسل من عند رب العالمين اختياراً واصطفاء واجتباءً بهذه الرسالة الكريمة إلى الخلق أجمعين، إنسهم وجنهم، ليدعوهم إلى ربه سبحانه، وكما أن الله سبحانه وتعالى ينزل المطر من السماء ليحيي به الأرض، ويصرفه في البلاد بين عباده كيف يشاء سبحانه وتعالى، فقد أنزل القرآن العظيم رحمة منه ليحيي به القلوب، فكما جعل المطر حياة للأرض، فقد جعل القرآن حياة للقلوب، وكما صرف المطر كيف يشاء في كل قرية وبلد فقد أنزل القرآن العظيم على النبي صلوات الله وسلامه عليه ليدعو به الخلق أجمعين، على أن الله قادر على أن يعدد الرسل، قال سبحانه:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان:٥١]، ولكن الله أراد رفع درجة النبي صلى الله عليه وسلم فجعله وحده ليس في زمنه فقط ولكن في كل الأزمان اللاحقة لزمنه عليه الصلاة والسلام، فكان هو الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث إلى قيام الساعة وليس بعده رسول، إلا ما يكون من نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ليحكم بشرع النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن وسنة، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يوشك أن ينزل فيكم المسيح بن مريم حكماً مقسطاً فيقتل الخنزير ويرفع الجزية، ويكسر الصليب)، وبذلك علم أن أحكام القرآن هي التي تنفذ وليس غيرها إذا نزل المسيح صلوات الله وسلامه عليه، بل قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس ويؤمهم بعد نزول المسيح رجل منهم تكرمة لهذه الأمة، فإنها لا تؤم من غيرها.
والآية تبين أن الله عز وجل اختص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة إلى جميع الخلق وقد نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أو كافة)، أي: أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى انسهم وجنهم، قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ}[الفرقان:٥٢]، أي: فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم أو من جعل أيام لهم، ولغيرهم من المسلمين أياماً أخرى، أو لتمييزهم على غيرهم بل:{وَجَاهِدْهُمْ}[الفرقان:٥٢]، والجهاد بالسيف في الأعوام المكية لم يكن قد فرض بعد، وإنما فرض جهاد السيف في المدينة، والمراد بالجهاد في الآية الجهاد بالحجة والبيان، والجهاد بالقرآن والإعلان، وهو المسمى بجهاد الدعوة وهو أن يخرج إلى الناس فيدعوهم إلى الله سبحانه ويحذرهم معصيته فإنها توجب غضبه وعقوبته، ووصف الجهاد المطلوب من النبي أن يقوم به بأنه جهاد كبير مبالغة في الحث على الدعوة إلى الله.