[تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:٤٤].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: بالعدل وبالقسط، خلقها الله سبحانه وتعالى حقاً وبالحق خلقها سبحانه، فهي موجودة حقاً وصدقاً، والذي أوجدها هو الله سبحانه وهو الذي أقام السماوات والأرض على العدل وعلى القسط وعلى الحق سبحانه وتعالى.
وهذه آيات من آيات رب العالمين ودلالة للمؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.
وتأمل أنه قبل ذلك ذكر بيت العنكبوت فقال: {إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:٤١].
ثم قال: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [العنكبوت:٤٤]، وقال سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:٢٧ - ٣٣].
يخبرنا عن هذا الخلق العظيم فيقول: هل أنتم أقوى أم هذه السماوات وهذه الأرضون؟! والإنسان كلما ازداد علماً كلما عرف أنه ضعيف وأنه ليس شيئاً، فأصل خلقة الإنسان هذا التراب الذي يمشي عليه، وإن كان حين سيره يضرب برجله الأرض، قال الله سبحانه: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:٣٧]، أي: لن تشقها برجلك لأنك أضعف من ذلك.
{وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ} [الإسراء:٣٧]، أي: لن تطول فتصير كقمة الجبل، فأنت ضعيف والسماء والأرض والجبال أقوى منك.
والله عز وجل خلق هذا كله وأحكمه إحكاماً وأتقنه إتقاناً، فانظر إلى بيت العنكبوت وضعفه، وانظر إلى السماوات والأرض وقوتها، وانظر إلى من يعبدون غير الله سبحانه، من الذي يستحق أن يعبد؟ أهذه الأصنام وهذه الآلهة التي هي أوهى من بيت العنكبوت أم الله الواحد القهار الذي خلق السماوات والأرض بالحق؟ لا شك أن الأحق بالعبادة هو الله سبحانه وتعالى.
فقد خلق السماوات والأرض وشرع لعباده ولم يتركهم هملاً، فهو أولى أن يطاع لكونه الخالق الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه، لا هذه الأنداد والآلهة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:٤٤]، أي: في خلق السماوات، وقد قال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠]، أي: من كان له لب وقلب وبصيرة وعقل عرف الآيات في ذلك، وعرف أنها لم تخلق نفسها ولم يوجدها إلا خالقها الله سبحانه فتوجه إليه وحده بالعبادة.
ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠]، أنه قال في الصباح لأصحابه: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها).
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات إذا استيقظ من نومه كل ليلة ليصلي بالليل، فيقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد أماتنا وإليه النشور)، ثم يقرأ العشر الآيات من آخر سورة آل عمران التي أولها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١].
إذاً: المؤمنون يذكرون الله ويتفكرون في هذا الخلق فيزدادون إيماناً، فبدأ بقوله: (خلق السماوات والأرض)، وعقب بعد ذلك بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:٤٩]، وبعد ذلك ذكر الصلاة وذكر الله سبحانه وتعالى.
وكأن هذه أشياء مرتبة بعضها على بعض، انظر إلى الكون فتفكر، فإذا تفكرت وتدبرت عرفت الخالق سبحانه وتعالى، وعرفت قوته وقدرته وأنه يستحق العبادة، فإذا عرفت ذلك فاعبده بالصلاة ولا تكتف بخمس صلوات في اليوم والليلة، بل أدم ذكر الله عز وجل ليل نهار، واذكر الله قائماً وقاعداً وساجداً وراكعاً بل اذكر الله عز وجل على كل حال.