[تفسير قوله تعالى:(ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون كذلك يضل الله الكافرين)]
قال الله تعالى:{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ}[غافر:٧٣ - ٧٤]، هذه النار لا يطيقها أحد أبداً، نسأل الله العفو والعافية وأن يجيرنا من النار، وأن يجعلنا من أهل الجنة، اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من أهل جنتك، هذه النار التي في الآخرة يجعل الله عز وجل فيها هؤلاء، فهم لا يحيون حياة كريمة، ولا يموتون فيستريحون، ثم قيل لهم لما عاينوا ورأوا العذاب وأدخلوا فيه:{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ}[غافر:٧٣ - ٧٤]؟ أين ذهبت الأنداد والأصنام التي كنتم تتخذونها آلهة من دون الله؟ فأجابوا (قالوا ضلوا عنا) أي: غابوا عنا وتاهوا، وذهبوا في مكان آخر، فلما تفكروا قالوا:{بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا}[غافر:٧٤] أي: استدركوا على أنفسهم فقالوا: لقد كنا في الدنيا في تيه وفي ضلال، بل لم نكن ندعو شيئاً ننتفع به، ولا شيئاً يملك لنفسه نفعاً فضلاً عن غيره، وإنما كنا ندعو أشياء لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع.
إذاً: كانوا في الدنيا يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ويدعونها من دون الله سبحانه، لكن دفعهم الكبر والأشر والبطر لذلك، فالكبر جعلهم يتعالون على دين الله وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجادلون بالباطل فيما يعرفون أن الحق معه صلى الله عليه وسلم، فيقولون:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:٥].
أي: كل هذه الآلهة والأصنام التي نعبدها يريد أن يوحدها بواحد فقط، هذا شيء عجيب! وما هو وجه العجب في ذلك؟ فهم يقولون ذلك قولاً فقط، وهم يعرفون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فهم يرون أحدهم يصنع الصنم والآخر يكسره، ويرون الذي يصنع الصنم ثم هو الذي يأكله بعد ذلك، فهذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله قد عبدوها وهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأحدهم:(كم تعبد من إله؟ فقال: أعبد سبعة، واحداً في السماء وستة في الأرض، فقال له: من الذي ترجوه لنفعك؟ فقال: الذي في السماء).
إذاً: الآلهة التي في الأرض لا تنفع ولا تضر، وهذا باعترافهم، فنقول لهم: لماذا تعبدونها؟ قالوا: إنها تقربنا إلى الله، فالشيطان يوحي إليهم ألا تعبدوا الله مباشرة، ولكن اعبدوا هذه الآلهة فإنها تقربكم إلى الله زلفى، ومع أنهم غير مقتنعين بذلك، ولكن منعهم الكبر على الحق، والكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يكون نبياً من بني هاشم؟! إذاً: الكبر يمنعهم من اتباع الحق، ويدفعهم لعبادة ما لا ينفع ولا يضر، فلما جاءوا يوم القيامة ما استطاعوا أن يكذبوا كما كانوا يكذبون في الدنيا، ولكن قالوا:{لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا}[غافر:٧٤] أي: اعترفوا بالحقيقة، وندموا حين لا ينفع الندم، وطلبوا الاستدراك في وقت لا ينفع فيه الاستدراك، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر:٨٥].
قال تعالى:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:٧٤] أي: كذلك الضلال الذي ضل فيه هؤلاء حتى وصلوا إلى النار يضل الله عز وجل مثله كل كافر يجادل بالباطل، فكل من يجادل بالباطل لم يضر إلا نفسه، فمن يتبع الباطل ويترك الحق ويظن أنه أتى بشيء فالله عز وجل يختم على قلبه، ويتركه في غفلته هكذا، ويذكر ربنا سبحانه المؤمنين كأنه يقول لهم: أيها المؤمنون! انظروا إلى الضلال الذي كان في هؤلاء حتى وصلوا إلى النار، فإنا سوف نضل هذا الإنسان المجادل بالباطل، حتى يظل في تيه وفي غفلة، عابداً غير الله حتى يصل إلى مثواه في نار جهنم كما فعل الله بالسابقين {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:٧٤].