[تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم)]
قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:٢٦]، وهذا من كلام الهدهد يخبر عن ربه سبحانه، فكأنه يقول: هذه المرأة لها عرش عظيم، ولكن أي عرش هذا؟! الله هو صاحب أعظم عرش، الله هو رب العرش العظيم سبحانه الذي ليس مثله عروش البشر.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [النمل:٢٦]، يعني: الله المعبود الذي يستحق وحده العبادة.
فلا معبود بحق سواه، لا شمس ولا قمر ولا غيرها.
قال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:٢٦] أي: خالق العرش العظيم هو الرب سبحانه الذي يدبر أمر الكون.
وقد وصف عرشها بأنه عرش عظيم، عظمة تليق بحقارتها هي، وحقارة الإنسان، إذاً: الإنسان قد يرى الشيء من الذهب والفضة عظيماً! أما عند الله فلا يساوي شيئاً، فكل الدنيا مهما تعاظمت عند الخلق فلا تساوي عند الله جناح بعوضة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) فهذه هي الدنيا.
أما الآخرة فهي الأعظم، وعرش الله سبحانه هو الذي يستحق أن يقال عنه: إنه هو العرش العظيم، والله عز وجل خلق العرش، واستوى عليه كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، استواء يليق به سبحانه وتعالى، وهو مستغن عن العرش وما تحته.
والسموات عظيمة عالية، وكرسي الله عز وجل فوق سمواته سبحانه، ولو جمعت السموات كلها والأرضون بجانب الكرسي لم تكن إلا كحلقة في فلاة، والكرسي العظيم لو قورن بعرش رب العالمين سبحانه كان كحلقة في فلاة، وهذه نسبة الكرسي إلى العرش، فكيف يكون هذا العرش الذي استغنى عنه ربنا سبحانه؟ والعرش يمسكه الرحمن سبحانه وتعالى أن يزول، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:٤١]، فمن يمسك السموات والأرض من بعد الله سبحانه وتعالى؟ لا أحد، فالكل يحتاج إلى الله عز وجل، العرش فما دونه، والله مستغن عن الجميع، وهو فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته سبحانه.
إذاً: الهدهد قال لسليمان عليه الصلاة والسلام: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:٢٢] أي: عندي الذي ليس عندك، أنا عرفت ما لا تعرفه، أنا صغير ولكن أعرف أشياء لا تعرفها أنت، قال الله عز وجل: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦]، إذاً: الإنسان لا يفتخر بعلمه، ولا يتعالى على الناس بأن علمه الله عز وجل شيئاً، فهو لا يدري لعله علم غيره ما لا يعلمه هو، ولم يقدره له.
فهنا لما قال الهدهد ذلك لسليمان عرفنا أن الصغير قد يعلم أشياء لا يعلمها الكبير، وقد جاء مثل ذلك عن أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد علم البعض منهم أشياء لم يعلمها البعض الآخر.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جلالته وإمامته رضي الله تعالى عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقال فيه: (لو كان من أمتي محدث لكان عمر) إلا أن هناك أشياء لم يعرفها عمر رضي الله عنه، وعرفها غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
من ذلك: الاستئذان الذي يعلمه الكثيرون من الصحابة، كان لا يعرفه عمر رضي الله تعالى عنه، فذهب إليه أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأفاضل وهو: أبو موسى الأشعري فاستأذن على عمر الأولى والثانية والثالثة فلم يأذن له عمر رضي الله عنه، فانصرف أبو موسى فإذا بـ عمر يقول: إلي به، أحضروه، فيأتي أبو موسى فيقول: عمر ما الذي صرفك؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف) فانصرفت، فقال: إما أن تأتي ببينة على هذا أو أوجعك ضرباً؛ لأنك تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
فذهب أبو موسى مذعوراً رضي الله تعالى عنه، فجاء إلى مجلس من الأنصار فيهم: أبي بن كعب وفيهم: أبو سعيد الخدري وهو مذعور، فقالوا: ما لك؟! فأخبرهم بالخبر، فضحك الجميع من أن عمر لا يعرف هذا! وقالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، أي: أن أصغر شخص فينا هو الذي سيعلم عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فكان أصغرهم أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، فقام لـ عمر رضي الله عنه وشهد بصدق كلام أبي موسى، ثم جاء خلفه مباشرة أبي بن كعب وهو سيد من سادات الأنصار، بل سيد القراء، كما لقبه بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له: يا عمر! لا تكن حرباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه علم ما لم تعمله أنت، فقال: إنما أردت أن أتثبت، يعني: هل هذا الخبر قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فهنا عمر مع جلالته لم يعرف هذا الأدب من آداب الاستئذان، وأن للإنسان أن يستأذن ثلاث مرات فقط فإن أذن له وإلا انصرف.
كذلك: التيمم، فقد خفي على عمر رضي الله عنه، مع أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عمار قد علم ذلك وحدث به، فأرسل إليه عمر يحذره من التحديث بأمر التيمم، فقال: إن شئت لم أحدث به، وتول ما تولاه، يعني: إذا أردت ألا أتكلم وألا أحدث به الناس فسأفعل، فقال عمر: لا، فـ عمار يذكره: أما تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت إلى مكان كذا، فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في التراب، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفيك هكذا) وعلمه التيمم، ضربة باليدين على الأرض ثم مسح الوجه والكفين، فلم يتذكر عمر رضي الله عنه الحادثة التي حصلت له هو رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦].
أيضاً: جاء في أمر المرأة الحائض: أنها إذا طافت طواف الإفاضة ثم حاضت قبل طواف الوداع فلتنفر طالما أنها طافت طواف الإفاضة، فهذا الحكم لم يعرفه البعض من كبار الصحابة منهم: عمر ومنهم: زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وعرفه من صغار الصحابة عبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذي توفي عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاثة عشر عاماً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
كذلك: غسل رأس المحرم، فالإنسان إذا كان محرماً جاز له أن يغسل رأسه، عرفه ابن عباس ولم يعرفه المسور بن مخرمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأحكام كثيرة من هذا الباب عرفها البعض من الصحابة ولم يعرفها البعض الآخر، وليس هذا عيباً، فالله عز وجل يخبرنا أن فوق كل ذي علم عليم، والعيب: هو أن يزعم الإنسان أنه يعرف كل شيء، والله عز وجل قد أخبر عن الإنسان أنه جهول، قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢]، فالإنسان فيه جهل في نفسه، فهو يجهل قدر نفسه، ويجهل حقارة نفسه، ويجهل قدر خالقه العظيم سبحانه، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:٦٧]، أي: لو عرفوا الله عز وجل حق المعرفة وعرفوا قدره حق المعرفة، لعبدوه العبادة التي تليق به سبحانه وتعالى.
وهنا في هذه الآيات لما قال الهدهد: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:٢٢]، لم يجب عليه سليمان في هذا الأمر؛ لأنه تعالى عليه بالعلم، فكان الجواب من سليمان اللائق بذلك هو ما ذكره الله في الآية التي تليها.