وبعد ذلك قال:(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)، وهذا في حالتين -كما يقول ابن العربي المالكي رحمه الله-: الحالة الأولى: أن يكون الإنسان باغياً معلناً بالفجور، كأن يكون قاطع طريق، ويفرح بهذا الشيء، فيجب أن تنتصر منه ولا تعطه حتى وإن وصل الأمر إلى أن تقتله أو يقتلك، ولذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله:(أرأيت إن أراد رجل أن يأخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: فإن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: فهو في النار)، فتعلمنا الشريعة الحكيمة العظيمة أن المؤمن لا يتهاون في حقه، ولا يكون التهاون عن ضعف، فلو تركت الناس يتطاولون عليك لأوشك أن يسود السفلة والمجرمون، ومثل هذا يجب أن تأخذ حقك منه في أي صورة من صور أخذ الحق: أن تشكوه للحاكم، أو تشكوه للقاضي؛ ولتمنعه بذلك من ظلمك فلك هذا الشيء، فمدح الله عز وجل من ينتصر في هذا المقام، وكان السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يحبون ذلك.
قال إبراهيم النخعي: إنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفساق، فلو أن فاسقاً مشى يستهزئ بالمؤمن ويشتمه، والمؤمن الأول يسكت عنه، والثاني يسكت عنه، والآخر يسكت، فسيشيع بين الناس الاستهزاء بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبالدين كله.
لكن لو أن المسلم أخذ حقه فوقف لظالمه يدافع عن دين الله وعن حقه، سيخاف الفساق، يذكر أن ثمانية أفراد ركبوا في القطار وأخذوه من محطة إلى محطة، وفتشوا جميع الركاب، وأخذوا كل أموال الركاب، وآذوا الركاب، والعجيب أنه قطار كامل يُفعل به هذا الشيء من ثمانية أفراد فقط! ويعفو المسلم إذا خاف الظالم من الله عز وجل، وندم على ما فعله، ورجع عن الذي هو فيه، ففي هذه الحالة اعف واصفح عنه، لكنه إذا ظل على ما هو عليه من إجرام وظلم، فانتصر منه بأي صورة من صور الانتصار.
لذلك قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفساق، وهذا فيمن تعدى وأصر على ذلك، وهذه الصورة الأولى: الإنسان الباغي المعلن الفجور، الوقح، والذي يجهر بوقاحته، والذي يؤذي الصغير والكبير، فالانتقام منه أفضل.