ثم قال رحمه الله بعد ذلك: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: أنه لا قول لأحد ولا اجتهاد مع النص، فإنه يلزمك أن تنفذ ذلك، فإذا أمر الله فلا اختيار، بل عليك أن تنفذ من غير استشارة.
ودليل الإمام البخاري في ذلك قوله: ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة.
في عهد أبي بكر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر الخلافة إذا بأناس كثيرين يرتدون، ويمنعون الزكاة، وقالوا: الزكاة كنا ندفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ}[التوبة:١٠٣] فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يأخذها، وقال:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}[التوبة:١٠٣] وأنتم لن تصلوا علينا فلن ندفع الزكاة، فسموا الجميع: مانعي الزكاة والمرتدين، مع أن فيهم من لم يرتد ولم يمنع الزكاة ولكنه قال: أنا أدفع الزكاة لكن لن أدفعها للإمام، فكلهم سموا مرتدين وإن كان في ذلك تفصيل، فالإمام البخاري يستدل بأن أبا بكر رأى أن يقاتل هؤلاء، وأن يقاتل الجميع، من ارتد ومن منع الزكاة بتأويل أو بغير تأويل، فإذا بـ عمر يعترض عليه ويقول: كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ وفي اعتراضه أتى بنص من النصوص، فإذا بـ أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه يرد عليه بنص آخر ويقول:(لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) أي: إن الله أمر بقوله: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وقال تعالى:{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}[النساء:١٠٢] إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أو من يقوم مقامه يقيم لهم الصلاة فيصلون جماعة، فمن منع الجماعة هذا نقاتله، وكذلك الزكاة قال:{وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة:٤٣] وقد أخذها النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذاً لأمر الله، فمن منع اعتراضاً على أن الإمام يأخذ الزكاة من الناس فيدفعونها له، فهو مفرق بين الصلاة والزكاة.
إذاً: احتج أبو بكر بالنص؛ فلذلك رضي عمر بما قاله أبو بكر رضي الله عنه.
فمقصد البخاري: أننا إذا اختلفنا في شيء مع وجود النص فإنه يلزم الجميع أن يأخذوا بهذا النص، وأن يتركوا آراءهم، ولذلك ترك عمر رأيه، وأخذ بالنص الذي ذكره أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فالذي يؤيد ما يقوله أبو بكر رضي الله عنه أن أبا بكر اختار أن يقاتل هؤلاء؛ لأن النص معه أن الذي يمنع الزكاة يلغي شيئاً من دين الله ومن أركان الإسلام، فهو مبدل للدين، ونص النبي صلى الله عليه وسلم:(من بدل دينه فاقتلوه)، فالمقصد منه: أن الإنسان إذا اختلف مع غيره رد الأمر إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا وجد النص في الكتاب والسنة لزمه أن يعمل به.