[معنى قوله: (ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)]
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:٢٤]، فالله غفور رحيم، لما ذكر المؤمنين جزم وقطع بالثواب، ولما ذكر المنافقين علقه بمشيئته سبحانه وتعالى؛ لأنه قد يتوب على المنافق الذي هو شر من الكافر، فالله غفور رحيم، ومن تاب تاب الله عز وجل عليه.
هذا أبو سفيان بن حرب الذي جاء زعيماً وقائداً لجيش من جيوش المشركين، وهو الذي فر في النهاية وقال: النجاة النجاة، وهرب من غزوة الأحزاب مع من معه، وشاء الله عز وجل أن يتوب هذا الرجل فيؤمن والنبي صلى الله عليه وسلم ذاهب ليفتح مكة، يعني: بعد يوم الأحزاب بثلاث سنوات، وكانت غزوة الأحزاب في شوال من سنة خمس للهجرة، وفتح مكة كان في رمضان من سنة ثماني للهجرة.
والإنسان قد يكون في قلبه دخن، وقد يكون في قلبه نفاق، ثم فجأة يأتي الفضل من الله سبحانه، ويتوب إلى الله فيتوب الله عز وجل عليه، ولذلك الإنسان المؤمن لا ييأس أبداً من روح الله ومن رحمته سبحانه، فهو القائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].
فالله ودود، يتحبب إلى عباده بمغفرته وبحلمه عليهم وبكرمه سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أذى المنافقين وكثرة مؤامراتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومع ذلك فإن الله سبحانه يعذب المنافقين إن شاء، فأدخلهم تحت خطر المشيئة، إن شاء تاب عليهم فألهمهم التوبة، وإن شاء ظلوا على ما هم فيه من كفر ونفاق، حتى يأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.
قال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} [الأحزاب:٢٤]، فكانوا تحت خطر المشيئة، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:٢٤]، أي: إذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، مهما وقع الإنسان في أعمال الكفر والشرك، وأعمال النفاق والمعاصي، فإذا تاب إلى الله وصدق في توبته فالله يتوب عليه، حتى ولو كان قبل هذه التوبة يستحق الدرك الأسفل من النار.
ويزيد ذلك وضوحاً سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:١٤٢].
صلاتهم رياء وليست حباً في الله عز وجل، ولا تقرباً إليه، ولكن ليروا الناس أنهم يصلون، قال الله سبحانه وتعالى في مثل هؤلاء: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:١٤٣].
ثم يذكر بعد ذلك سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:١٤٥]، فالجنة درجات عالية، بعضها فوق بعض والنار دركات بعضها أسفل من بعض، فهم في أسفل نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:١٤٥].
ومع ذلك يدرك الله برحمته من يشاء فيقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:١٤٦].
والمؤمنون لهم الأجر العظيم، ومن صار إليهم ورجع معهم فهذا من المؤمنين، وله أيضاً الأجر العظيم، وإن عمل المنافقون ما عملوا، فإنهم إن تابوا صاروا مع المؤمنين؛ لأنهم أصلحوا {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء:١٤٦]، أي: رجعوا للتوحيد، وأخلصوا الدين لله سبحانه، فالله يتجاوز عنهم، ويجعلهم مع المؤمنين، ومن المؤمنين، ويؤتيهم الأجر العظيم.