للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بيان إرسال الرسول رحمة للعالمين]

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧].

فهو رحمة لرب العالمين، والعالمين: جميع العالم من الإنس والجن، فهم جميع الخلق، والله عز وجل أرسل محمداً صلوات الله وسلامه عليه رحمة للخلق جميعهم، فهو رحمة للإنس والجن وللمؤمنين والكافرين والدواب، ورحمة للدواب، ورحمة لخلق الله عز وجل جميعاً.

ويكفي النظر في تشريعه الذي جاء به صلوات الله وسلامه عليه للتعرف على هذه الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرسل رحمة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣]، فما كان الله ليعذبهم، ولا يستحق العذاب غير الكفار، وإنما قال له: أنت أمان لهؤلاء الكفار، فلن نعذبهم مادمت فيهم، فكان رحمة لهم، صلوات الله وسلامه عليه، فلم يخسف بهم الأرض، ولم يرسل عليهم حاصباً من السماء، ولم يغرقهم ولم يرسل عليهم الطوفان، أو الجراد، أو القمل، أو الضفادع، أو الدم، والله على كل شيء قدير، فكان رحمة بذلك.

ولما آذوه أشد الأذى صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وسلامه عليه، فإذا بالله يمنع عنهم المطر، وتجدب الأرض، ويشتد عليهم الحر، فإذا بهم يتعبون، ويجوعون، ولا يجدون ما يأكلون حتى أكلوا كل شيء، فقد أكلوا من أوراق الأشجار، وجلود الحيوانات والبهائم الميتة، فلما اشتد عليهم ذلك ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وناشدوه بالله وبالرحم الذي بينهم وبينه، إلا سأل ربه أن يكشف عنهم ما هم فيه، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.

فنسي ما كانوا يفعلونه به وبأصحابه، ودعا ربه أن يرفع عنهم ذلك، قال سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:١٥]، أي: عائدون للكفر والتكذيب مرة ثانية، وسترجعون إلينا يوم القيامة فنجازيكم، فكان رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.

ولما فتحت مكة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة.

أي: هذا يوم الالتحام، ويوم الحرب والقتل، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ما قال سعد بن عبادة فقال: (بل اليوم يوم المرحمة) صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان رحمة للعالمين.

وفي شرعه العظيم منعنا من الأذى، وأمرنا أن نقتل أنواعاً من الدواب، وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم)، فما أمرنا أن نقتل إلا شيئاً مؤذياً، (الفأرة، والكلب العقور، والحدأة، والغراب، والحية)، هذه التي تؤذي الناس أمرنا بقتلها، وأما غير ذلك فلم يأمرنا بقتلها، بل إنه نهى عن قتل النمل إن كان لا يؤذي، ونهى عن قتل النحل، ونهى عن قتل الشيء الذي لا يؤذي، فلا تقتل ما لا يؤذيك، فإذا صار مؤذياً فحينها يقتل للأذى والضرر الذي فيه، فكان رحمة صلوات الله وسلامه عليه.

وقد أخبرنا أن من أسباب إنزال الله عز وجل للمطر من السماء على أهل الأرض ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:٩٦].

وقد جاء لهم بهذا الدين العظيم الذي فيه الإيمان، فيؤمنون به فتنزل عليهم البركات من السماء والأرض، كما حدث أن فتح الله عز وجل الفتوح العظيمة، فكان الإسلام يفتح كل بيت فيأتي الله عز وجل بالرزق العظيم لعباده الصالحين.

وكان رحمة للخلق صلوات الله وسلامه عليه في أخلاقه الحسنة، فكان الأسوة العظيمة، والقدوة الطيبة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه.

فقد عرفه المؤمنون وعرفه الكفار، فكانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: الصادق الأمين، وكانوا يأتمنونه ولم يعرفوا منه غدراً قط ولا خيانة صلوات الله وسلامه عليه.

فقد كان يقول: (لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين).

وقد عرفه أهل الكتاب بصفة الرحمة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي.

وهو حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب).

وقد من الله على قريش برحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن، في الشتاء والصيف، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٣ - ٤]، فأخذه عمه أبو طالب في قافلة قريش المتوجهة إلى الشام، فلما وصلوا إلى أطراف الشام في تجارة والنبي صلى الله عليه وسلم صغير معهم، فإذا بالراهب الذي في ذلك المكان ينزل إليهم، وذلك كما في الحديث.

(خرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول يبعثه الله رحمة للعالمين.

فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ - أي: كيف عرفت هذا الشيء؟ - قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً) فرأى ذلك هذا الراهب، وهي آية من آيات الله عز وجل له.

قال الراهب: (ولا يسجد الشجر والحجر إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة) أي: أنه أخذه وفحصه ورأى كتفه، فوجد فيه خاتم النبوة مثل التفاحة وهي: غدة من اللحم على ظهره صلى الله عليه وسلم في أسفل غضروف الكتف، مثل التفاحة.

(ثم رجع فصنع لهم طعاماً، إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الإبل، فقال: أرسلوا إليه، قال: فأقبل وعليه غمامة تظله من حر الشمس)، فكان يمشي صلى الله عليه وسلم وفوقه سحابة تظل رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، يعني: قبل أن يبلغ سن النبوة الذي هو سن الأربعين سنة.

قال: (فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس، مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه)، فهم لم يروا الشجر يسجد، ولكن الراهب رآه، وأخبرهم بذلك، وخوفاً من أنهم لا يصدقونه أخبرهم بعلامة في كتفه، فكان المفروض أن يصدقوه، ثم أخبرهم أن ظل الشجرة عندما جلس مال إلى الجهة الأخرى، فالمفروض أن هؤلاء أول من يصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه.

قال: (فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة، فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأننا علمنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه أناس)، يعني: أنهم كانوا مستعدين لوجود نبي الله سبحانه، فأناس من الرهبان يعرفون أن هناك نبياً، وهم ينتظرون حتى يؤمنوا به، وأناس آخرون ينتظرونه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الروم بعثوا في كل طريق من طرق الشام مجموعة من الجنود لقتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: (وإنا قد أخبرنا خبره وبعثنا إلى طريقك هذا.

فقال لهم الراهب: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا.

فقال لهم الراهب: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقدره أتقدرون على رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه)، أي: بايعوا على أن لا تؤذوه، وأترككم تتعبدون معي هنا، فبايعوه ومكثوا معه في الطريق، فكان أماناً للنبي صلوات الله وسلامه عليه من رب العالمين.

(قال الراهب: أنشدكم بالله، أيكم وليه؟ قالوا: أبا طالب، فلم يزل يناشد أبا طالب حتى رده أبو طالب).

فهل يحتاج إلى مناشدة وقد رأى مثل هذه الآيات؟ نلاحظ أن أبا طالب مات كافراً، ولم يمت مسلماً، وهو قد دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من الآيات ما رأى، ومع ذلك قضى الله عز وجل أن يموت كافراً، فالغرض أنهم ردوا النبي صلى الله عليه وسلم.

والشاهد من الحديث هو قول الراهب: هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.

وهو رحمة حتى إذا شتم إنساناً، أو لعن إنساناً، وكان هذا الإنسان لا يستحق هذا الشتم وهذه اللعنة فكأنما يطهره بذلك، وكأنما يدعو له بالرحمة، فعندما يقول لإنسان: اذهب لعنك الله، فكأنه يقول: اذهب رحمك الله، كأنه يدعو له بذلك.

ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو)، وفي رواية لـ مسلم: (فخلوا به صلى الله عليه وسلم)، فكأنهما ضايقا النبي صلى الله عليه وسلم عندما قعد معه، قالت: (فسبهما ولعنهما وأخرجهما).

والمفترض أن الضيف عندما يأتي في بيت المضيف أن يحسن في الكلام، ويراعي أدب المكان، ويراعي مع من يتكلم، فكونه يطردهم من البيت ليس من عادته صلى الله عليه وسلم، ولكن لابد أن يكونا قد قالا قولاً شديداً للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سبهما ولعنهما وأخرجهما.

قالت عائشة فقلت: (يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هؤلاء)، أي: كل إنسان قد يصاب بشيء من الخير إلا هؤلاء فإنهم لم يخرجوا بخير أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: أوما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعلها له زكاةً وأجراً).

يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالإمكان أن يسكت بدل

<<  <  ج:
ص:  >  >>