[تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)]
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:٣١] أي: ثم إن المرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، والخصومة بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فيجثون للخصومة، فهذا يقول: هذا ظلمني، وهذا أكل مالي، وهذا سفك دمي، وهذا فعل كذا وكذا، فيختصم المؤمنون مع الكفار، ويختصم الظالم مع المظلوم، ويختصم البر مع الفاجر يوم القيامة.
وجاء عند الترمذي: أن الزبير رضي الله تبارك وتعالى عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: (يا رسول الله! أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا يوم القيامة؟) يعني: في الدنيا تعاركنا مع بعض، وتشاجرنا مع بعض، وشتم بعضنا بعضاً، وانتهى هذا الشيء، وتصالحنا بعد هذا، فهل سيكرر مرة ثانية يوم القيامة، ويسألنا ربنا يوم القيامة عن هذا الشيء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه.
فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد، إن الأمر لشديد) يعني: نحن ظننا أنه في الدنيا تخاصمنا وانتهى الأمر، وقد يصطلح الناس في الدنيا على شيء من الظلم؛ لأن المظلوم لم يستطبع أن يأخذ حقه، فرضي بهذا الشيء؛ لأنه لم يعرف أن يعمل شيئاً غيره، والله الحكم العدل سبحانه تبارك وتعالى، أعلم بما في نفوس الخلق، فيعلم أن هذا قد رضي أو لم يرض، فيكرر الأمر يوم القيامة، فيختصمان بين يدي الله العزيز الحكيم الحكم العدل سبحانه تبارك وتعالى، فيفصل بين عباده.
قال تعالى: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ))، كان الصحابة يتعجبون من هذه الآية، ويقولون: في ماذا؟ ونحن إخوة متحابون يحب بعضنا بعضاً، فظنوا أنها مقيدة بأنهم يختصمون مع الكفار، ولكن الآية قالت: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ)) يعني: كلكم، فالكل يختصم يوم القيامة عند الله.
فيختصم المسلمون مع الكفار، ويختصم المسلمون بعضهم مع بعض.
قال بعض الصحابة: تعجبنا حين أنزل الله عز وجل ذلك، فقلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد؟ حتى رأيتُ بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف! رأوا ذلك لما اختصموا في يومي صفين والجمل، ولما حدث بينهم شيء من الخلاف، وقاتل بعضهم بعضاً.
فقالوا: عرفنا أن هذا الشيء فينا، ويوم القيامة الله عز وجل يفصل بيننا فيما كان بيننا من خصومات.
قال أبو سعيد رضي الله عنه: فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم، هو هذا، قلنا: نعم، هو هذا، فإن الآية عامة: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)).
وجاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار) يعني: الإنسان المفلس هو: الذي ليس له شيء، لا درهم ولا دينار.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
فهذا مفلس يوم القيامة، والإفلاس في الدنيا سهل؛ لأن الإنسان لن يعيش في الدنيا إلا عمره، فسواء عاش مفلساً، أو عاش فقيراً فهو في النهاية إلى الموت.
أما يوم القيامة فإنه يوم الجزاء، يأتي فيه الإنسان المفلس ومعه صلاة وصوم وزكاة، وقد عمل أعمالاً كثيرة، فلما وقف للحساب قيل له: أنت صليت وصمت وعملت كذا، ولكنك ضربت فلاناً، فأنت ظالم، أعطه جزاء ما ضربته، فيدفع من حسناته؛ لأنه لا توجد أموال يوم القيامة، ولكن يعطيه من حسناته.
ويأتي الآخر ويقول: جرحني، فيؤمر بإعطائه ثمن هذه الجراح، فيدفع له من حسناته.
والثالث يقول: قذفني، والرابع يقول: سبني وشتمني، والخامس يقول: عمل فيّ كذا، وعمل كذا، فيعطى لهؤلاء من حسنات هذا الإنسان، حتى يصير مفلساً لا شيء عنده، وقد بقي أناس آخرون يشتكون منه أنه عمل فيهم كذا وكذا، فيقال له: أنت ظالم لهم، فيؤخذ من سيئاتهم فتوضع عليه، فيحملها عنهم، ثم يدفع في النار والعياذ بالله! فقد صار مفلساً، وأي حسرة على نفس الإنسان أشد من هذه الحسرة، حين يرى الحسنات تؤخذ منه، والسيئات توضع عليه بسبب ما قدم!! ولذلك المؤمن كيس فطن، لا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يدفع بالحسنة السيئة؛ لأنه يخاف من الناس أن يأخذوا من حسناته، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يشتم الناس، ولا يسخر من الناس؛ لأنه لا يريد أن يكون مفلساً، فالمؤمن عاقل وحكيم، فلا يفرط في حسناته في الدنيا، حتى لا تضيع منه يوم القيامة.
فهنا المؤمن حين يتذكر الآخرة يمسك لسانه، ويكف يده، ويحفظ فرجه، ويخاف على عينه، ويخاف على بدنه، فلا يكون مفلساً يوم القيامة.
قال الله سبحانه: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.