[تفسير قوله تعالى: (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر)]
قال تعالى: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:٣٦] أي: اعبدوا الله، فأمرهم بعبادة الله سبحانه وتوحيده، وبأن يوجهوا كل أعمالهم خالصة لله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ)) أي: أملوا ما عند الله من جنة وخافوا من عذاب الله سبحانه وصدقوا بما جئتكم به من رسالة من عند رب العالمين.
ثم قال: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [العنكبوت:٣٦] يعثى: بمعنى: يفسد، ويقال في العثى: أنه أشد الفساد، أي: لا تفسدوا في الأرض أشد الإفساد فكان إفسادهم أنهم كفروا بالله سبحانه، وأنهم ينقصون في الكيل والميزان كما فصل الله عز وجل في سورة الأعراف وفي سورة هود كيف أن نبيهم بين لهم ذلك.
وكان شعيب يلقب بخطيب الأنبياء؛ لحسن بيانه، وحسن تبليغه، وجمال كلامه، وأنه أخذ قومه باللطف وبالبيان شيئاً فشيئاً وحجة وراء حجة ليقنعهم، ومع ذلك لم يستجيبوا ولم يؤمنوا به.
فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:٨٥ - ٨٦] فدعاهم بهذا البيان الطيب الجميل: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ)) أي: معي بينة وآية تدل على أني رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ثم قال: ((فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)).
وفي آية أخرى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:٨٥].
وفي الآية الأخرى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:٨٥].
ثم قال: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:٨٦] أي: لا أملك إلا أن أدلكم على الحق، ولست رقيباً عليكم، ولا أحولكم من شيء إلى شيء فلا أملك لكم ذلك.
فيخاطبهم ويتلطف لهم ويرقق قلوبهم بقوله: يا قوم! أي: أنا منكم، فقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
وقال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود:٨٥ - ٨٦] يعني: ما بقي لكم من حلال أفضل وأخير لكم من حرام تطلبونه إن كنتم مصدقين بأنكم ترجعون إلى الله فيحاسبكم يوم القيامة.
فما كان جواب قومه إلا أن ردوا عليه بالسفاهة فقالوا: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:٨٧] أي: أنت جاعل نفسك حليماً رشيداً فلن نسمع الكلام الذي تقوله.
ثم قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:٨٨].
وحاشا له أن يكون قد دخل في ملتهم حتى يعود فيها، ولكنهم قصدوا من آمن معه، فكما دخلوا معك في دينك يرجعون إلى ديننا مرة أخرى، وإلا فسوف نخرجك ونطردك من هذه القرية.
فرد عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف:٨٨ - ٨٩] ثم دعا ربه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:٨٩].
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٠].
إذاً: جدل طويل بين شعيب وبين قومه، يرقق قلوبهم، ويدعوهم إلى هداية الله رب العالمين، وهم يأبون إلا قسوة القلوب والاستكبار والإفساد.