للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اختلاف العلماء في بيع دور مكة]

كان الصحابة يعظمون هذا المكان فكان أهل مكة في أيام المناسك يفتحون دورهم للناس، ويدخل الضيف ويمكث عندهم ما شاء الله، فقد كانوا في أيام الحج وأيام العمرات يخلعون أبواب الدور، وكان عمر بن الخطاب يرى ذلك وقد يأمرهم بذلك حتى جاء رجل من المؤمنين وجعل الباب على داره، فأنكر عليه عمر رضي الله عنه فاعتذر عن ذلك بأن هؤلاء الضيوف يأتون ومعهم أمتعتهم، وقد كثرت السرقة لأمتعة الضيوف، فجعل الباب على داره ليحمي هؤلاء الضيوف الذين يأتون إلى الحرم.

والراجح أن هذا ليس واجباً عليهم، فلا يجب على المقيم أن يخلع باب بيته، أو أن يدخل الضيوف عنده في البيت عنوة وقهراً عليه، ولكنهم عرفوا حق هذا المكان وحرمته وأن الناس سواء فيه، فاحترموا من يأتي إلى بيت الله الحرام، ففتحوا بيوتهم لاستقبال الحجيج والضيوف لهذا المكان العظيم.

وبعض العلماء يرون أن دور مكة يستوي فيها الجميع، وهذا مذهب مالك، فقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:٢٥]، فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: مذهب مالك أنه يستوي فيه الحرم والمسجد، والدور كلها من الحرم، وهو قول ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه.

القول الثاني: قول الجمهور أن المسجد الحرام هو مكان المسجد فقط، واحتج له ابن خزيمة بأنه لو كان الحرم المقصود به مكة كلها لجاز لمالك البيت أن يؤجر بيته، أو أنه يملّك هذا البيت لغيره.

ويقول ابن خزيمة أيضاً: لو كان المراد من قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:٢٥] جميع الحرم، وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر، ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن، والمعنى: أنه لو كانت مكة كلها هي المسجد الحرام إذاً: حكمها حكم المساجد لا يجوز أن يُجعل فيها مرحاض أو مكان للنجاسة، ولكن المسجد شيء وباقي الحرم شيء آخر.

يقول الحافظ ابن حجر: القول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة، فضعف ما أسند إليهم من أن المسجد الحرام هو الحرم كله، قال: المسجد الحرام هو مكان المسجد، ومكان المسجد كلما اتسع فهو المسجد، فإذا وسع في المسجد ما دخل فيه من الحرم صار مسجداً وله حكم المسجد الحرام.

وهل بيوت مكة مثل غيرها من البيوت يجوز بيعها وشراؤها وتأجيرها أم أنه يستخدم البيت إذا كان محتاجاً له ولا يجوز له أن يبيعه؟ يقول الإمام القرطبي: هذا الخلاف ينبني على أصلين، أحدهما: أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم هي للناس؟ والثاني: هل فتح مكة كان عنوة أم كان فتح مكة صلحاً؟ الراجح: أن مكة فتحت بالوجهين عنوة في أول الدخول، ثم صلحاً مع أهلها بعد ذلك، وبنى العلماء على ذلك أنها إذا فتحت عنوة فهي ملك للغانمين، وإذاً: أهلها تركهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، لكن كنوع من المنة عليهم أن يمكثوا فيها، ولكن الأرض ليست ملكهم، إذاً: ليس من حق أحد في مكة أن يبيع داره، ولكن يسكنها طالما هو محتاج إليها، فإن لم يحتج إليها بعد ذلك يتركها لغيره من غير بيع.

وهذا قول مالك، والإمام القرطبي يرجح هذا القول هنا ويقول: الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة، قال أبو عبيد: ولا نعلم أن مكة يشبهها شيء من البلاد، وذكر عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، والمعنى: إذا كان محتاجاً للبيت جلس فيه، وإن لم يكن محتاجاً إليه تركه لغيره.

وجاء في حديث عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها، وقال: من أكل من أجر بيوت مكة شيئاً فإنما يأكل ناراً).

والراجح أن هذه الأحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح: أن بعضها من أقوال الصحابة، وليس من قول النبي صلوات الله وسلامه عليه.

وجاء في حديث عن عائشة قالت: (قلت: يا رسول الله! ألا أبني لك في منى بناء يظلك من الشمس؟ فقال: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه)، وهذا صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن منى مناخ من سبق إليه، يعني: منى لا تُملك، لأنها من أماكن المشاعر وأماكن العبادة، فهي مكان المناسك والذاهب إليها إذا ثبت في مكان فالمكان من حقه حتى يخرج منه، لكن الكلام هنا ليس في منى، الكلام في بيوت مكة هل يملكها أصحابها أم لا يملكها أصحابها؟ فالإمام القرطبي يأخذ بقول مالك في أن مكة ومنى حكمها واحد.

وذهب الإمام الشافعي إلى أن بيوت مكة ملك لأصحابها، فالذي يجلس في بيته يملك بيته، وإذا أحب ترك البيت وباع، واحتج بقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:٤٠]، فالله نسب الديار إليهم، فلو لم يكونوا مالكيها ما نسب الديار إليهم.

وجاء في فتح مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فنسب الدار إلى صاحبها.

وجاء أيضاً في صحيح البخاري أن أسامة بن زيد قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (أين تنزل في دارك غداً في مكة؟) يعني: عندما نصل إلى مكة غداً ستنزل في أي دار من ديارك؟ فقد كان له دار صلى الله عليه وسلم، وهاجر وتركها صلى الله عليه وسلم فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟)، عقيل هو عقيل بن أبي طالب، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كان عقيل وطالب كافرين، وأخوهم علي بن أبي طالب، وكذلك أخوهم جعفر كانا مسلمين، فـ أبو طالب لما توفي ورثه الكافران عقيل وطالب، فأخذوا الديار وبيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش فيه وباعا الجميع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما لم يتركا شيئاً له، فهنا لولا أن البيوت ملك لأصحابها لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما سئل: (أين تنزل غداً من دارك؟)، ولذلك الصواب في هذه المسألة مذهب الشافعي، أن أهل مكة يملكون بيوتهم، ويجوز لكل منهم أن يبيع داره وأن يسكنها وأن يؤجرها، وأما ما جاء من الأحاديث في النهي عن ذلك فلم يصح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>