للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً)

قال الله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:٣٦].

كان الكفار حين يرون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يستهزئون به، ويسخرون منه صلوات الله وسلامه عليه، ومرة سجد عند الكعبة صلوات الله وسلامه عليه فوضع بعض السفهاء سلا بعير -كرش بعير مذبوح- فوق ظهره صلوات الله وسلامه عليه وهو ساجد، وبقوا يستهزئون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه حتى أخرجه الله سبحانه وتعالى من بين أظهرهم، وهاجر إلى المدينة، وعز الله عز وجل الإسلام وجنده بعد ذلك.

قال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء:٣٦]، (هُزُواً) هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، ((هزواً)) من غير همز، وغيره من القراء يهمزون، وحمزة سيقرؤها كبقية القراء ((هزءاً)) في الوصل، وإذا وقف عليها قال: ((إلاهزاً)) أو إلا ((هزواً)).

{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:٣٦]، يستهزئون به، قائلين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:٣٦] يعني: أهذا الذي يسفه آلهتكم، وآلهتهم سفيهة، وهم أدرى الناس بذلك، ويعرفون مدى ما هم فيه من سفاهة، وما آلهتهم عليه من حقارة، ومع ذلك يعصون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤمنون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.

يقول: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:٣٦] كأنهم يريدون أن يكرموا الآلهة، وكان لهم مع آلهتهم مواقف عجيبة جداً، فهم الذين صنعوا هذه الآلهة ومع ذلك يعبدونها، يصنعها المشرك من حجر ثم يقعد يعبد هذا الإله الذي صنعه، فالشيطان طمس على عقل هذا الإنسان، فلا يتفكر في الذي يصنعه، فكانوا يعبدون الأصنام بدلاً من عبادة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.

لما هاجر مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى المدينة، وكان يدعو أهل المدينة، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وما من بيت إلا ودخله الإسلام بسبب وجود مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان ممن أسلم على يد مصعب بن عمير رضي الله تبارك وتعالى عنه معاذ بن عمرو بن الجموح وعمرو بن الجموح، وكان عمرو سيد بني سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان له صنم يعبده من دون الله اسمه مناة، فمر عمرو بن الجموح على مصعب، وقال: ما هذا الذي جئتمونا به؟ فقال له مصعب: إن شئت جئناك فأسمعناك القرآن، فذهب إليه وأسمعه صدراً من سورة يوسف عليه السلام، فـ عمرو بن الجموح لما سمع ذلك وكان سيداً في قومه قال: إن لنا مؤامرة في قومنا، يعني: نستشير قومنا، فدخل على صنمه مناة وقال له: يا مناة! تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير؟ وخلع سيفه وأعطاه، وقال له: دافع عن نفسك فهؤلاء يريدون بك شراً.

أي عقل هذا العقل؟! التمثال هو الذي صنعه من حجر، فكيف يعبده من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، ويقول له: خذ هذا السيف ودافع به عن نفسك! وخرج وترك السيف معه، فدخل ابنه معاذ بن عمرو بن الجموح وأخذ السيف من الصنم، فلما رجع وجد الصنم قد أخذ منه السيف، فعجب لذلك وقال: أين السيف الذي كان معك؟ ويحك إن العنزة لتمنع استها، ثم أوصى أهله بالصنم، وخرج لأمر من أموره، فأخذ ابنه ومجموعة من الفتيان الصنم وربطوه بكلب ميت، ورموا به مع الصنم بين القاذورات، فلما جاء عمرو بن الجموح نظر إليه وهو مرمي مع كلب ميت بين النجاسة فقال: والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لمثواك إلهاً مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن يعني عرفنا الآن أنك لا تنفع أن تكون إلهاً، وجمع قومه وقال لهم: ألستم على ما أنا عليه؟ فقالوا له: نعم، أنت سيدنا، قال: فإني آمنت بما أنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليه، فتابعه قومه فأسلموا.

هذا الرجل العظيم كان أعرج وفي يوم أحد خرج أولاده يقاتلون، وقالوا: نحن نغني عنك، فقال: لا، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصم أولاده، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن قتلت أأطأ بعرجتي هذه الجنة؟ قال: نعم) فقاتل في سبيل الله حتى قتل في ذلك اليوم رضي الله تبارك وتعالى عنه.

والمقصود بيان كيف أن هؤلاء الكفار كانوا يعبدون الأصنام، وهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر، وأنها لا تملك لنفسها شيئاً! فهذا هو العجب، وليس العجب مما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معنى لتعجبهم من ذلك وقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥]، فالكفر يطمس نور العقول، ويجعل الإنسان ينظر للشيء على خلاف منظره، ويفتن الإنسان بجهله وكفره وحماقته.

وكان رجل من المشركين سادناً لصنم القبيلة التي هو منها وهي بنو سليم، وفي يوم من الأيام وجد ثعلبين صعدا إلى رأس الصنم وبالا عليه، فقال: أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب فكسر الصنم وقال لقومه: هذا ليس إلهاً، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن: (فسأله: ما اسمك؟ فقال: غاوي، فقال: بل أنت راشد)، كان اسمه غاوي بن عبد العزى فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه راشد بن عبد ربه رضي الله تبارك وتعالى عنه.

وقد قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:١٠]، يعني: يا رسولنا عندما يستهزئ بك قومك، فأنت لست بدعاً من الرسل، ولكن أنت مثل الرسل الذين من قبلك، وهنا قال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:٣٦] أي: بآيات رب العالمين يكفرون.

<<  <  ج:
ص:  >  >>