[تفسير قوله تعالى: (وما أموالكم لا وأولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)]
قال الله عز وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:٣٧] يعني: إذا أعطيناكم مالاً وأعطيناكم ولداً فليس معنى هذا أن لكم منزلة عند الله سبحانه، ولذلك أعطيناكم المال والولد ويوم القيامة نعطيكم أيضاً الجنة؛ لأنكم تستحقون ذلك، ليس الأمر كذلك، فليس كونك غنياً يصير لك منزلة كبيرة عند الله؛ فالمال ليس هو الذي يقربك عند الله زلفى، وزلفى: قربى، وكأنه يقول: يقربكم تقريباً، وتقريباً: مفعول مطلق، فزلفى كأنها هنا على غير الفعل، والمفعول لغير الفعل، فهنا قال: {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:٣٧] وأصلها: تقربكم عندنا تقريباً، يعني: تتقربون قربة عظيمة إلينا بأننا أعطيناكم هذه الأموال؛ لتقربكم هذه الأموال عند الله، إنما الذي يقربكم أن تستعملوها في طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالذي يقربكم هو العبادة وحب الله وحب هذا الدين العظيم، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
فالمال لا يقرب العبد عند الله إلا أن يكون هذا العبد مؤمناً فيستعمل هذا المال في طاعة الله، فيقربه من الله سبحانه.
فالله عز وجل هنا كأنه يخاطب الكفار والفجار وغيرهم: أنه لم نعطكم المال لأنكم تستحقون، ولم نعطكم المال لأن المال هذا يقربكم، فأنتم لا تستحقون ذلك؛ لأنكم تستخدمون هذا المال في طاعته.
وقوله: ((إِلَّا مَنْ آمَنَ)) المؤمن هو الذي نعطيه المال فينفق في سبيل الله فيستحق عند الله الأجر، ويستحق عند الله الثواب العظيم.
وقوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:٣٧] يعني: ولكن من آمن وعمل صالحاً، فهنا (إلا) كأنه استثناء منقطع أو أنه على الاستثناء المتصل والمعنى: ما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم أنتم أيها الكفار! إلا من كان مؤمناً فهذا تقربه؛ لأنه يستعملها في مرضاة الله سبحانه.
وقوله: ((لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ)) يعني: الجزاء المضاعف عند الله سبحانه، وقد عرفنا من الأحاديث أن الحسنة بعشر أمثالها، وأن النفقة في سبيل الله تبلغ إلى سبعمائة ضعف، ويزيد الله لمن يشاء من فضله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا لهم جزاء الضعف بما عملوا: بأعمال الخير، بإيمانهم، بصدقاتهم، بإنفاقهم في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى.
وضعف الواحد اثنين، وهنا ذكر تعالى أن لهم جزاء الضعف، وقال في السورة الأخرى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:١٦٠] فعرفنا بذلك أن الحسنة تضاعف عند الله سبحانه أضعافاً مضاعفة وليست ضعفاً واحداً.
وقال عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:٢٦١] فضاعف سبحانه ذلك إلى سبعمائة.
فقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٦١] دلت الآية على أن الله يكثر ويزيد من ثواب المنفق في سبيله سبحانه، وذكر في الآية الأخرى أنه يضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه في الحديث: (سبق درهم مائة ألف درهم) يعني: رجل تصدق بدرهم فكان له أجر عند الله، وآخر تصدق بمائة ألف فكان له أجر، ولكن أجر صاحب الدرهم أعظم من أجر صاحب المائة ألف، فتعجب الصحابة لذلك! فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لهم: أن هذا رجل يملك درهمين فتصدق بأحدهما، تصدق بنصف ماله، وهذا له مال كثير أخذ من عرض ماله مائة ألف، فسبق الدرهم المائة الألف عند الله سبحانه تبارك وتعالى، والله يضاعف لمن يشاء.
فالله عز وجل يعطي من عنده وهو الرزاق الكريم سبحانه تبارك وتعالى، ويفضل بعض الناس على بعض بما يشاء سبحانه.
وقوله سبحانه: ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا)) هذه قراءة الجمهور.
وقراءة رويس عن يعقوب: (فأولئك لهم جزاءً الضعفُ بما عملوا) فنصب (جزاءً) على التمييز، أي: أن لهم الضعف جزاء من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فميز لهم هذا الثواب وأنه جزاء من عند الله سبحانه، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فالله عز وجل يجزي الثواب العظيم، وعطاء الله سبحانه عطاء غير مجذوذ.
قال: ((وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)) هذه قراءة الجمهور: ((فِي الْغُرُفَاتِ)) بالجمع، وقراءة حمزة: (في الغرفة) على الإفراد.
وكأن الغرفة هنا جنس، فإذا جاءت بلفظ الإفراد فيعني الإفراد ويعني التثنية ويعني الجمع.
والغرفة هي أعلى ما يكون، أو هي المكان العالي الذي يحب الإنسان أن يجلس فيه، وهي أشرف المواضع، وهي أعلى الجنات عند الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة؛ فإنها أعلى الجنة وأوسطها وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة).
فالفردوس الأعلى هو أعلى الجنة، ولا نتخيل أن الغرفة بمعنى الغرفة التي نتكلم عنها في الدنيا؛ لأنه لا تقاس الآخرة على الدنيا، ولكن الغرف في أعالي الجنات، وفيها بساتين عالية جداً، وفيها قصور للمؤمنين لا يعلم حقيقتها وما فيها إلا الله سبحانه تبارك وتعالى.
فقوله: ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)) أي: أنهم يدخلون الجنة وأعلى الجنة، ولهم من الله عز وجل الأمن والأمان، ولذلك يقال لأهل الجنة: {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:٤٩].
وهذه نعمة عظيمة جداً، فمن يدخل الجنة يمنع الله عز وجل عنه الخوف، ويمنع عنه الحزن؛ فلا خوف ولا حزن.
والخوف الغالب أنه يكون من المستقبل، فأنت خائف من الذي قدامك من المستقبل.
والحزن يكون على الماضي، فربما حصل كذا وحصل كذا فأنت حزين عليه، لكن في الجنة لا توجد حاجة تهمك في الماضي وتسبب لك الهم والحزن، ولا شيء يخشى في المستقبل فيخوفك، فربنا سيأمنك، ويعطيك الأمان في الجنة، ويقول لأهل الجنة كما في الحديث القدسي (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعدها أبداً) فيطمئنون وهم في جنة الخلود؛ لأنهم يعلمون أن هذا نعيم مقيم لا يزول عنهم أبداً، ولا يتحولون عنه أبداً؛ فضلاً من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم سبحانه.