تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً)
قال الله عز وجل: ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)) أي: من قبل هذا القرآن، فليس القرآن أول كتاب نزل من السماء، بل إن الكتب السماوية نزلت قبل ذلك، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل، ولا هذا الدين بدعاً من الدين، فالدين عند الله الإسلام الذي جاءت به الرسل جميعهم عليهم الصلاة والسلام.
وكان قبل هذا القرآن كتاب موسى لبني إسرائيل أنزله الله على نبيهم موسى عليه السلام، والفرق بين موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما أن موسى أرسل لبني إسرائيل خاصة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الخلق عامة، وهذا فرق بينه وبين جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ففضل صلى الله عليه وسلم على الجميع بأنه أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، وإلى الخلق جميعهم إلى قيام الساعة، ولا نبي بعده صلوات الله وسلامه عليه، حتى حين ينزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليقتل الدجال فإنه يحكم بشرع النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويكون تابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى))، وهو كتاب شريعة.
وكثيراً ما يذكر الله سبحانه موسى وكتابه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ذكرنا أن بين موسى ومحمد عيسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كتاب عيسى ليس كتاب تشريع، وكتاب موسى عليه الصلاة والسلام كتاب تشريع.
ولذلك فإن المفترض أن يعمل النصارى بالكتابين: كتاب موسى وهو التوراة الذي يسمونه بالعهد القديم، فهو عندهم كتاب الشريعة، وكتاب عيسى وهو الإنجيل، وهو كتاب مواعظ وليس كتاب حكم.
وفي الكتابين البشارة بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال المسيح عيسى فيما أثبت الله عز وجل في كتابه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:٦]، فجاء عيسى صلوات الله وسلامه عليه ليصدق التوراة كتاب موسى السابق، ويبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يأتي من بعده.
وقوله تعالى: ((وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)) أي: إماماً يقتدى به، فجعل الله لبني إسرائيل كتاب التوراة نوراً وإماماً يتبعونه ويعملون بما فيه حتى يصلوا إلى رحمة الله عز وجل، فمن رحمة الله عز وجل أن أنزل الكتب من السماء شريعة للعباد؛ ليعرفوا منهج الله سبحانه ويتبعوه، فـ ((كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً))، وهذا القرآن العظيم: ((كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)).
((وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ))، إما مصدق للكتب السابقة أنها نزلت من عند رب العالمين، أو أنه (مصدق لساناً) أي: رسول ينطق باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه، فيصدقه فيما يقول أنه رسول ويثبت ذلك، فهو كتاب مصدق للكتب السابقة، ومصدق للنبي الأمي الذي يتكلم باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه، ((مُصَدِّقٌ لِسَانًا)) حال كونه لساناً عربياً، أو حال كون الرسول ينطق باللسان العربي صلوات الله وسلامه عليه.
إن هذا القرآن ينذر الله عز وجل به الظلمة الكفرة الذين ظلموا أنفسهم وأشركوا بالله سبحانه، ويبشر الله عز وجل به المحسنين الذين عبدوا الله سبحانه وتعالى ابتغاء رضوانه ورحمته، واتقاء ناره وعذابه، ولهذا قال: ((وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ))، وهنا قرئت (لينذر) بالغيب وبالخطاب.
فقرأها (لتنذر): نافع، وأبو جعفر، والبزي عن ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب يقرءونها بتاء المخاطب، والمعنى: لتنذر يا محمد عليه الصلاة والسلام، وباقي القراء يقرءونها (لينذر)، والمعنى: أن هذا القرآن ينذر الله عز وجل به الظلمة الذين ظلموا، وأعظم الظلم: الشرك بالله سبحانه وتعالى، وأول الظلمة المشركون والكفار.
((وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)) أي: بشارة يبشرهم الله عز وجل بها، ويخبرهم بما يسرهم ويفرحهم وبما يغبطون عليه في مستقبلهم عند رب العالمين سبحانه، فإذا أحسنوا فلهم جنة الله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.