المؤمنون يعرفون الحقوق وينفقون فيما يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى، فمدحهم الله بهذه الصفات، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفات يخشعون لذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وعندما تتلى عليهم الآيات يبكون، وكان قدوتهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، عندما كان يقرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من خوفه من الله عز وجل، ومن بكائه وكتمه لهذا البكاء، فيسمع الصوت من صدره، وليس من فمه صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يسمعون لصدره أزيزاً كأزيز المرجل.
وجاء في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(إن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة) يعني: يوم من الأيام رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الثاني سأل، ثم الثالث سأل، وكان يكره السؤال صلى الله عليه وسلم، وكان يقول:(إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، فلعل الإنسان يسأل عن شيء فيحرم على الناس من أجل مسألته، ومن كثرة التدقيق والأسئلة لعلهم يسألون عن أشياء لا يحل لهم أن يسألوا عنها، مثل الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم:(أين أبي؟) أبوك قد مات فلماذا تسأل هذا السؤال؟ فلما سأل عن هذا قال له:(في النار)، فلو قال الثاني: أين أنا ويجيء وحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا في النار فتكون الفضيحة في الدنيا، فلما أكثروا من السؤال غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام ووقف على المنبر صلوات الله وسلامه عليه فقال للناس:(لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا) وكان هذا القول منه قول غضب، والله عز وجل أوحى إليه بذلك، يعني اتركهم يسألوا وأجبهم عن الأسئلة التي يسألون عنها بما فيها، فلما رأوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذه مصيبة من المصائب جلسوا يبكون، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:(فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون أمر قد حضر) يعني خشوا أن تكون مصيبة تحضرهم في هذا المقام، فرجعوا إلى أنفسهم وسكتوا، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه:(فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي)، انظروا عقل الصحابة رضوان الله عليهم وإيمانهم، لما قال لهم: اسألوا، علموا أنهم أخطئوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فجلسوا يبكون فيما بينهم وبين الله عز وجل، وليس رياءً، بل كل واحد مغطي رأسه بثوبه يبكي بينه وبين الله عز وجل، نادم على ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أحوال الصحابة رضوان الله عليهم، ولعل بعضهم يخطئ في الشيء فيقوم الباقي يذكرونه فيرجعون إلى الله عز وجل تائبين منيبين إليه خاشعين، فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وهنا ذكر المؤمنين فقال:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ}[الحج:٣٥]، ومدح الله عز وجل الذين يدخلون في هذا الدين من قسيسين ورهبان بأنهم يعرفون أن هذا الدين هو الحق، ويعرفون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستكبرون؛ فإذا عرفوا الحق بكوا من ذلك، يقول الله عز وجل:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}[المائدة:٨٣]، وهؤلاء هم الذين عرفوا بشارات النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا بعثته، فلما سمعوا ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا صدق ذلك من كتبهم، فدخلوا في هذا الدين ولم يستكبروا، أما غيرهم ممن رفضه فقد استكبروا عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال الله عن هؤلاء:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}[المائدة:٨٣ - ٨٤] لماذا لا نؤمن وندخل مع القوم الصالحين؟ فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وعلى إخباتهم، وعلى دخولهم في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه الحق، وكان لهم أجران وليس أجراً واحداً، أجر على أنهم آمنوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وأجر على أنهم آمنوا بنبينا صلوات الله وسلامه عليه.