[تفسير قوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب)]
وجه الله المؤمنين بالإنابة والرجوع إليه فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:٥٤] وهو أمر للمؤمنين خصوصاً، وللعباد عموماً بالإنابة إليه، وأناب بمعنى: رجع، والمعنى: ارجعوا إلى ربكم، ارجعوا إلى طاعة ربكم، ارجعوا إلى الخضوع والاستسلام لله سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:٥٤] أسلم نفسك، أي: سلم نفسك لربك سبحانه تبارك وتعالى، ولا يثبت قدم الإسلام إلا على التسليم والاستسلام لله رب العالمين، فلكي تثبت على دين الإسلام، لا بد أن تسلم فيه نفسك، ووجهك، وقلبك لله سبحانه تبارك وتعالى، وتقول: أنا مسلم.
أي: أسلمت نفسي لربي، فليحكم فيّ بما يشاء سبحانه وتعالى، وكما ينبغي أن تسلم لقضاء الله وقدره سبحانه تبارك وتعالى، فعليك أن ترضى وتذعن وتخضع لله وأحكامه سبحانه تبارك وتعالى، فإذا أمر تطيع، وإذا نهى تنزجر وتنتهي.
فلا يتحقق الإسلام إلا بالاستسلام والإذعان والخضوع لله سبحانه، ولذلك المؤمن حين يقول: أنا مسلم.
لا بد أن يفهم هذه الكلمة التي فهمها الكفار، فقد فهم الكفار ما هو دين الإسلام، وفهموا معنى: لا إله إلا الله، أي: أنه لا معبود بحق إلا الله، وهذه الكلمة يجهلها الكثير من المسلمين، بل إنك عندما تسأل أحد المسلمين: ماذا تعني كلمة: لا إله إلا الله؟ تجد من يقول لك: إن معناها: أن الله هو الذي خلقنا، والله الذي رزقنا، ويعدد بعض أفعال الله سبحانه، وهذا كلام معناه صحيح، فالله هو الذي يرزق، وهو الذي يخلق، لكن ليس ذلك هو معنى: لا إله إلا الله، بل لو قال الإنسان: لا رب إلا الله، لم يدخل في دين الإسلام، بل سيظل كافراً حتى يقول: لا إله إلا الله، إذ إن معنى الرب: الذي يفعل، والكافر لا يخالف في ذلك، بل يقر أن الله يفعل ما يشاء، ويقر أن الله يحكم، وأنه يدبر أمر السماء والأرض، وأنه يرزق عباده، وأنت عند قولك: لا رب إلا الله، تقر فقط أنه لا يفعل هذه الأشياء إلا الله، ولم ينكر أحد ذلك إلا الملحدون، فإنهم كذبوا بذلك وأنكروا، أما كفار أهل الجاهلية، عباد الأوثان والأصنام، فقد سئلوا من خلقكم؟ فقالوا: الله، وسئل بعضهم: كم تعبد يا فلان؟ فقال: سبعة من الآلهة، واحد في السماء، وستة في الأرض، فقيل: من الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء! ولذلك علم أن أمر الربوبية لم يختلف فيه الكفار، وشهد الله على الجميع بأن في قلوبهم ما يثبت ذلك، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧].
إنما وقع الخلاف بين الرسل وقومهم في إفراد الله بالعبادة، إذ إن الإله بمعنى: المعبود، فحين تقول: لا إله إلا الله.
فأنت تقر أنك لن تتوجه بالعبادة إلا إليه وحده، وهذه هي التي خالف فيها المشركون ورفضوا أن يقولوها تعنتاً وبغياً وكبراً وحسداً للنبي صلى الله عليه وسلم، فهم لم يخالفوا أنه لا رب إلا الله، وإنما خالفوا في أنه لا إله إلا الله؛ لأن مقتضى هذه الكلمة فعل من العبد، بخلاف الربوبية لله عز وجل، فإن مقتضى الربوبية أفعال من الله سبحانه، ولا أحد يخالف أو ينكر أفعال الله، أما مقتضى ألوهيته سبحانه، فهي أفعال من الخلق، وبيان لما يجب أن نعمل لهذا الخالق، ولذا جحد الكفار فقالوا كما أخبر الله عنهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] أي: إنما نعبد آلهة كثيرة، ولا نعبد إلهاً واحداً، وإنما رفضوا أن يعبدوا إلهاً واحداً؛ لأنهم لو عبدوا إلهاً واحداً، سيكون إلهك أنت يا محمد! وحينها سيكون لك النهي والأمر وحدك، وتتفرد بالشرف وحدك، وهم لا يرضون بهذا الشيء.
فكان هذا الذي من أجله خالف الكفار النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله.
وقد حدث أنه اجتمع أبو جهل ومن معه من زعماء قريش عند أبي طالب وشكوا له النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مما قالوا: إنه يسب آلهتنا، ويسفه أحلامنا.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدعوكم إلى قول كلمة واحدة، تدين لكم بها العرب والعجم قالوا: كلمة واحدة! بل نحن نقول لك عشر كلمات.
قال: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: أما هذه فلا).
فقد فهم الكفار منها ما لم يفهمه الكثير من المسلمين اليوم، بل إنك عندما تسأل الكثيرين لماذا تقول: لا إله إلا الله؟ ما الذي تعرفه عن هذه الكلمة؟ تجد أنه لا يعرف شيئاً عن معنى: لا إله إلا الله! وحين فهم الكفار معنى: لا إله إلا الله، قال قائلهم: أنترك كل الآلهة ونعبد إلهاً واحداً نتوجه إليه، ونصلي له، ونصوم له، ونزكي له، ونحج له، فاعلين ما يأمرنا، مجتنبين ما ينهانا عنه؟! أي أنهم فهموا من: لا إله إلا الله: ألا نعبد شيئاً إلا الإله الواحد سبحانه تبارك وتعالى.
ولذا يُفهَم من قوله سبحانه: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:٥٤] أي: توجهوا إليه وحده سبحانه تبارك وتعالى، مستسلمين له، مسلمين بقضائه وقدره، راضين به أنه الرب، وأنه الذي يعبد وحده لا شريك له، فلا تعبدوا أحداً مع الله ولا من دون الله سبحانه.
وقد أردف هذا الأمر بوعيد فقال سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} [الزمر:٥٤] ففي الآية تهديد ووعيد للمشركين والعصاة المجرمين: أن ارجع إلى ربك، قبل أن ينزل بك العذاب من عند رب العالمين، وأكد ذلك فقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:٥٤].