تفسير قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً)
قال الله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:٤٨].
قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي: أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم ظهورهم، ورفضوا أن يدخلوا في دينه صلوات الله وسلامه عليه، (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن حزناً شديداً لعدم إيمان هؤلاء الكفار، وكان كلما دعاهم إلى الإسلام ازدادوا عتواً واستكباراً، ونفروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتولوا عنه وأعطوه أدبارهم، فكان يحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦] أي: إنك ستهلك نفسك من أجل أن يؤمنوا، فلست عليهم بوكيل، قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:٢٢] {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:٨٠].
والحفيظ هو الذي يحفظ عليهم أعمالهم ويحاسبهم بها، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي سوف يحاسبهم وإنما هو الله، فهو الحفيظ الذي يحيطهم فيحفظهم ويمنعهم من الوقوع في الكفر، ولا يقدر على ذلك عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ).
فوظيفته أن يبلغ رسالة الله سبحانه فقط ولا يكرههم على هذا الدين، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:٢٥٦].
وقوله تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ) (إن) بمعنى ما، فهنا أسلوب قصر، أي: ما عليك إلا البلاغ، فليس النبي مسيطراً على الخلق، فلا يملك قلوبهم فيحولها من شيء إلى شيء آخر، إنما الله عز وجل هو القادر على كل شيء.
وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) (إنا) هنا أتى بنون العظمة فهو الخالق القادر سبحانه وعادة الإنسان كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٦ - ٨].
ومعنى كنود أي: جحود.
وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ) أي: جنس الإنسان، وكل إنسان فيه من ذلك بحسبه، فالمؤمن يعصمه الله فإذا وقع في المعاصي كان له نصيب من ذلك فتأتيه رحمة الله فلا يغتر الإنسان بها.
أما إذا وقعت عليه المصيبة فإنه يقع في اليأس، قال تعالى: (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا) أي: إذا أتاه مال أو صحة أو عافية أو منصب أو زوجة حسناء أو أولاد أو بيت حسن فإنه يفرح بهذا الشيء.
قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) فالسيئة جاءت بما كسبت أيديهم فاستحقوا ذلك بذنوبهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى الشوكة يشاكها يكتب له بها أجر)، أي: يكون ذلك بما كسبت يداه فيكون له أجر من الله عز وجل على ذلك.
قال تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: جحود، يقول: لماذا يا رب في كل وقت تأتي لي بمصيبة؟ ونسي أن الله أعطاه الزوجة الحسناء والأولاد والبيت الواسع والوظيفة المناسبة، فينسى كل هذا بمجرد أن جاءت له مصيبة من المصائب، فهذا ينكر النعم فيجحدها.
قال تعالى: (فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ) أي: يكفر بربه ويكفر بنعم ربه سبحانه فيسترها ولا يذكرها، ولا يحمد ربه سبحانه وتعالى عليها، قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:١٨٩] فإن الله سبحانه وتعالى يملك السماوات والأرض ويملك كل شيء سبحانه وتعالى.
وعنده ملائكته يحمدونه ويشكرونه سبحانه وهو الغني الملك، وهو قادر على أن يعطي وأن يمنع، فإذا شكرتم فلأنفسكم، وإذا كفرتم فإنما تضرون أنفسكم.
فشكر الله على نعمه سبب لدوامها، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧] والكفر بنعم الله سبحانه وجحدها كمن يقول: الله ما أعطاني شيئاً! فهذا سبب لمنع رزقه وفضله سبحانه.