للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:٣٣ - ٣٩].

في هذه الآيات من سورة الروم يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن طبيعة الإنسان فيقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:٣٣]، ففي وقت نزول البلاء، وفي وقت نزول الشدة والمصائب، وفي وقت قحط المطر وشدة الناس في طعامهم وشرابهم يبتليهم الله سبحانه وتعالى، فإذا بهم يرجعون إلى الله ويدعونه وحده لا شريك له، قال: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} [الروم:٣٣]، والتعبير بالمس دال على أقل شيء يمسه من الضر، فإذا بهم يدعون ربهم ويرجعون إليه سبحانه وتعالى متأدبين منيبين راجعين تائبين من ذنوبهم، والإنسان في وقت بلائه يفعل ذلك، ويرجو أن يكشف الله عز وجل عنه ضره، قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:٣٣]، ورحمة الله عظيمة واسعة، وأعظم ما تكون يوم القيامة، فقد قسم الله عز وجل الرحمة مائة جزء، فجعل منها جزءاً واحداً في الأرض يتراحم منه الخلق جميعاً، الإنس والجن والبهائم، وأبقى عنده تسعة وتسعين جزءاً ليرحم به الخلق يوم القيامة، ويضيف إليهم هذا الجزء الذي كان بينهم في الدنيا، فهنا إذا أذاقهم شيئاً من رحمته سبحانه وتعالى إذا بهم يشركون، والمفترض بالإنسان إذا ذاق البأساء والضراء، وذاق كيف تكون الشدة في الدنيا، ودعا ربه وأناب إليه، فمن المفترض أن يظل على ذلك دائماً، فيدعو الله عز وجل تائباً إليه مستقيماً على الصلاة.

ولكن الإنسان معوج بطبيعته لا يستقيم، فإذا أذاقه الله عز وجل شيئاً من الرحمة، وعبر: بأذاقه، وكأنه مهما أوتي من شيء في هذه الدنيا فهو قليل، لكن أن يطعمك حقيقة فهذا في الجنة، ويوم القيامة، لكن في الدنيا يذيقك ويمسك فيعطيك شيئاً يسيراً، وإن كانت رحمة الله عز وجل كلها عظيمة.

قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:٣٣]، والفريق الآخر مستمرون على التوحيد، وفريق يكفرون بالله سبحانه، ويجحدون نعم الله عز وجل، إما كفراً أكبر فيخرجون من دين الإسلام، وإما كفر جحود، كأن يقال لأحدهم: إن الله أعطاك فاحمد الله، فيقول: قد وقعت بي مصيبة ووقع لي كذا! فيجحد، وكأنه يحتقر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، فهذا من كفر الإنسان وجحوده، قال الله عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:٦] أي: جحود، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:٧]، فسيشهد على نفسه بذلك، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:٨] أي: المال، {لَشَدِيدٌ} [العاديات:٨] يحب المال كثيراً، ويحب أن يعطيه الله عز وجل الرزق الواسع العظيم، وينسى الدار الآخرة، فلذلك يقول تعالى هنا: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:٣٣] أي: ينسبون الفضل إلى غير الله سبحانه، فتجد الإنسان يعطيه الله مالاً ثم يقول: فلان أعطاني كذا، وينسى الله سبحانه وتعالى! فيشكر فلاناً، وينسى أن يحمد الله سبحانه ويشكره على ما أعطاه.

يقول هنا: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:٣٣]، والتعبير بالفريق هنا يدل على عدم شرك الفريق الآخر، وهم أهل التوحيد، أهل الإيمان الخالص، عباد الرحمن سبحانه، الذين يعبدونه ويرجونه في السراء والضراء، فإن أنعم عليهم الله عز وجل وخافوا، وإن أنزل بهم من بأسه وضرائه إذا بهم يجأرون إلى الله في كل وقت بالدعاء حامدين شاكرين صابرين محتسبين شاكرين ربهم سبحانه وتعالى، أما الفريق الآخر من العباد فهم الذين يشركون، وهذا الصنف هو الأكثر غالباً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣]، فالذين يشكرون الله سبحانه وتعالى حق الشكر ويحمدونه حق الحمد قليلون، والكثيرون يقولون: الحمد لله، وقد يقولها بلسانه ولكن قلبه لا يوافقه على ذلك، فتجد الإنسان إذا أتته نعمة فقلت له: احمد الله تعالى، قال لك متذمراً: نحن نحمد الله دائماً! وكأنه معترض على الله، ولو لم يقل ذلك لكان أفضل له، فيقولها معترضاً على ربه سبحانه، ولكن المؤمن يحمد الله سبحانه، ويعلم أن وراء البلية خير عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فإذا ضيق عليه يقول: الحمد لله وسيعوضني الله يوم القيامة، فالمحصلة والمخزن والحصالة حقي عند الله سبحانه تبارك وتعالى يدخر لي ذلك، فالإنسان المؤمن يرجو فضل الله ورحمته سبحانه فيشكره، وقليل من عباد الله الشكور.

<<  <  ج:
ص:  >  >>