[تفسير قوله تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة)]
قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ} [سبأ:٤٦] يعني: لهؤلاء {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:٤٦] أي: كلمة واحدة أقولها لكم، موعظة أعظكم بها، خصلة واحدة أدعوكم إليها لتتعظوا، ولتأخذوا حذركم من ربكم سبحانه وتعالى، بأن تؤمنوا وأن تطيعوا، والكلمة الواحدة التي طلبها النبي صلى الله عليه وسلم هي: قولوا: لا إله إلا الله، فإن هذه الكلمة العظيمة مفتاح الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) هذه الكلمة العظيمة التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى أن يقولها، (قل: لا إله إلا الله كلمة واحدة أحاج لك بها عند ربك).
هذه الكلمة العظيمة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: أعظكم بها أن تقولوها، هذه الكلمة إذا تأملت معناها عرفت أن هؤلاء القوم كانوا يفهمون معنى هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فهم عرب، وهذه الكلمة عربية، فعرفوا الكلمة وعرفوا ما ينبني عليها، ولذلك رفضوا هذه الكلمة.
فقوله: (قل إنما أعظكم بواحدة)، أي: قولوا: لا إله إلا الله، معناها: لا أتوجه بعبادة لغيره إذا كان الإله إلهاً واحداً، ولكن الكفار لا يريدون أن يكون الصلة بينهم وبين الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يرفضون ذلك، يرفضون أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصغر منهم سناً، وهناك من هو أقوى منه، وأكبر منه سناً، وأكثر منه مالاً، فلماذا يخصه الله بالرسالة حسب زعمهم؟ فهم لا يقبلون منه أمراً لهذه الأسباب، وإنما الأمر لله وحده سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:٣] صلوات الله وسلامه عليه، إنما الوحي من ربه سبحانه.
فقال لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:٤٦] أي: أذكركم وأحذركم من سوء العاقبة بخصلة واحدة فقط: أن تتفكروا في هذه الخصلة الواحدة، قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:٤٦]، في هذه الموعظة التي أقولها لكم، أدعوكم إلى طاعة الله عز وجل، هذه هي الخصلة الواحدة والأمر الواحد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم اعبدوا الله وحده، وهذه دعوة كل الأنبياء والرسل من قبله، دعوا قومهم: أن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] أي: قولوا: لا إله إلا الله لا نعبد إلا الله، والكفار كانوا يقرون بربوبية الله أنه الخالق وأنه الرازق، وأنه الذي ينفع ويضر سبحانه، لكنهم يعبدون معه غيره، ويقولون: نعبد هذه الأصنام لأنها تقربنا إلى الله، وسبب عبادتهم للأصنام كما قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢] لذلك الذي كان يسلم منهم بعد ذلك كان يضحك على نفسه كثيراً عندما يذكر جهله وغباءه وكيف عبد هؤلاء الأصنام! وكيف يصنع التمثال من الحجر هو ويخته بيده ويطؤه بقدمه ثم يضربه بفأسه، ثم يعبده من دون الله! وأعجب من ذلك: أنه إذا لم يلق حجراً يصنع إلهاً من التمر فيعبده من دون الله حتى إذا جاع أكله، وكانوا يفعلون ذلك في السفر، أو يأخذ الشاة ويحلبها فيأخذ الحليب ويخلطه مع رملٍ من الأرض حتى يجعلها عجينة ثم يجعلها تمثالاً ثم يجففه بالشمس ويعبده من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا عاد من سفره ترك هذا التمثال، وعاد إلى صنمه الذي في بيته يعبده من دون الله! قال الله عنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤] فعبدوا هذه الأشياء من دون الله سبحانه، فلا يعقلون ولا يفهمون.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:٤٦] خذوا هذه الخصلة الواحدة التي آمركم بها وتفكروا فيها، أنا دعوتكم أن تقولوا لا إله إلا الله فكذبتموني وقلتم عني: مجنون، وقلتم عني: ساحر، وقلتم: الكتاب هذا مفترى، إذاً: تفكروا في ذلك، قال: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:٤٦]، أن تقوموا لله مثنى، أي: اثنين اثنين (وفرادى) أي: كل واحد بنفسه حتى تصلوا إلى الأمر السليم، فالأمر المشكل لا يكون إلا كذلك، إذا أشكل الأمر على إنسان بدأ يزن الأمر في رأسه حتى يصل إلى شيء، أو أنه يأتي بإنسان عاقلٍ آخر ويجلس معه، فيكون كل واحد مرآة للآخر.
إذاً: التفكير السليم يحتاج الإنسان فيه إلى أن يكون وحده يفكر، وبعد ذلك يجلس مع غيره ليستعين به، لم يقل: لأن المجموعات لا يصلون إلى حل أبداً حين يفكرون، ولكن يصلون إلى حل عن طريق الشورى، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تستخير الله سبحانه وتعالى ونطلب منه الخير في الأمور، وصلاة الاستخارة ركعتان، من غير الفريضة يسأل فيها العبد ربه سبحانه وتعالى، يقول: (اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كان شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به)، فتستخير ربك وتفكر في هذا الأمر ثم تشاور مع غيرك فيه، فإذا فعلت ذلك فإن الله عز وجل يوفقك للصواب؛ لذلك فإن التفكير الجماعي لا يجدي؛ لأنهم كلهم كفرة، والكبراء يمنعون الصغار من التفكير لذلك لا يصلح التفكير في جماعة من الناس، إنما التفكير إذا أردت الاهتداء والوصول إلى الصواب أن تفكر وحدك لتكون منصفاً، ثم تشاور إنساناً آخر عاقلاً مثنى وفرادى فتصلون إلى الصواب يوماً من الأيام.
قوله تعالى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:٤٦] هذه قراءة الجمهور، وقراءة رويس عن يعقوب: (ثم تَّفكروا ما بصاحبكم من جنة) والوقف على (ثم تتفكروا) وقف تام عليها، وقيل: بل الوقف على ما بعدها (ما بصاحبكم من جنة)، وكلاهما له معنى؛ فإذا وقفنا {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:٤٦] تمت هنا، إذاً: هنا أمرهم أن يقوموا لله مثنى وفرادى، ثم يقومون مخلصين يبتغون بقيامهم أن يوصلهم الله سبحانه إلى الحق، فيتفكرون في قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: قولوا: لا إله إلا الله، ثم تتفكروا، ثم قال لهم: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:٤٦] أي: ليس بصاحبكم من جنة، هذا إذا كان على الابتداء بذلك: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:٤٦] أما على الوصل فيها والوقف على (جنة) فيقول: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:٤٦] هذه الجنة التي تزعمون أنها فيه، تفكروا هل فيه من جنة؟ وعلى ذلك تكون (ما) هنا موصولة بمعنى: الذي، أي: ثم تتفكروا في الذي زعمتم أن بصاحبكم جنة، وصاحبكم هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، هل فيه فعلاً جنون كما تقولون؟ إذاً: على الأولى نفي من الله عز وجل: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:٤٦] أما على الثانية فهي وصل أي: تفكروا في الذي زعمتم ورميتموه به من جنون هل هو فعلاً كما تقولون.
قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ} [سبأ:٤٦] أي: ما هو إلا نذير لكم صلوات الله وسلامه عليه بين يدي عذاب شديد، وما هو إلا رسول، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:١٤٤]، هذه وظيفته صلوات الله وسلامه عليه في هذه الدنيا، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:١٤٤].
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:٤٦]، والمعنى: أنتم المحتاجون، فأمامكم عذاب أنتم لا ترونه، فأرسلنا إليكم هذا النبي الكريم الرسول البشير عليه الصلاة والسلام ليحذركم من هذا العذاب، وكان من الممكن ألا نرسل إليكم شيئاً، ونجازيكم ونعذبكم، ولكن الله سبحانه وتعالى رءوف بعباده، لطيف بهم حليم كريم سبحانه، يأبى أن يعذب حتى يقيم العذر والحجة على هؤلاء، فقال لهم سبحانه: (ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير) أي: منذر يخوفكم مما أمامكم من عذاب يستقبلكم عند الله سبحانه.
قال الله سبحانه في سورة الشورى للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:٢٣] إذاً: هو لا يسأل أجراً أصلاً، ولكن إن سألتكم شيئاً أسألكم أن تراعوا المودة، فإن بيني وبينكم مودة، بيني وبينكم قرابة، فلا تقطعوا الأرحام، إما أن تدخلوا في الدين, وإما أن تتركوني أدعو غيركم، ولا داعي لأن تدخلوا طالما أنتم على ذلك، ولعل الله يهديكم في يوم من الأيام، ولكن راعوا المودة في القربى.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: خلوا أموالكم؛ لأنهم قالوا له: إن كنت جئت بهذا الأمر تبتغي به ما لاً جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أغنانا، فقال لهم: لا، ما أنا طالب منكم شيئاً من المال، إنما أدعوكم إلى الله سبحانه وتعالى.