[تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:٤١ - ٤٢].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن جزاء جازى الله عز وجل به العباد بما كسبت أيديهم، وبما أفسدوا في الأرض فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم:٤١] والسبب هو معاصي العباد، أشركوا بالله سبحانه، وكفروا به، وعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، ووقعوا في الفواحش، ووقعوا في الذنوب والموبقات؛ فاستحقوا أن يرسل الله عز وجل عليهم ما هم فيه، كانوا في نعمة من الله، فانقلبت نعمتهم نقمة، بسبب تبديلهم، بدلوا وغيروا فانقلب عليهم الحال، فبعدما كان لهم صار عليهم، فظهر الفساد في البر والبحر، فمنع الله عز وجل عن أناس المطر، وجعل أناساً يعيشون في مجاعة، وكسدت تجارات الناس، وفسدت أسواق الناس، وفسدت ذممهم، وكثرت فيما بينهم الفتن، وظلم بعضهم بعضاً، واستمرءوا الظلم؛ فعاقبهم الله عز وجل بأن سلط بعضهم على بعض بسبب ما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحداً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦]، وكل ما يجازى به العباد، وكل ما يظهر فيهم، إنما هو بما كسبت أيديهم، والله لا يظلم أحداً شيئاً سبحانه وتعالى.
قال الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ} [الروم:٤١] أي: بسبب {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:٤١]، أي: ليذيقهم الله عز وجل شيئاً من العقوبة على ذنوبهم، وباقي العقوبة مدخرة ليوم القيامة، إلى أن يتوبوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فظهر هذا الفساد وكثر في العباد بسبب ما كسبت أيديهم، وظهرت النتيجة فيهم من عقوبة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، يظلم الإنسان غيره فيسلط الله عز وجل على الظالم ظالماً آخر يظلمه ويأخذ ما بيده، ويسلط عليهم الأمراض، ويسلط عليهم الأوبئة، ويسلط عليهم أنفسهم، ويسلط عليهم الشياطين، ويسلط عليهم أولادهم ونساءهم كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٤]، فلما طغى الإنسان وبغى، ولما ابتعد عن الله سبحانه تبارك وتعالى ومشى في طريق الفساد وسعى، أذاقه الله سبحانه بعض ما كسبت يداه، ورحمة الله عظيمة واسعة، ولو شاء لعاجلهم بالعقوبة، ولو شاء لجازاهم بكل ما أذنبوه، وكل ما وقعوا فيه.
عاد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه وقد مرض مرضاً شديداً وصار كالفرخ، من شدة ما ابتلاه الله عز وجل به من أمراض وغيرها! فالنبي صلى الله عليه وسلم تعجب لحاله ثم سأل الرجل: (لعلك دعوت على نفسك بشيء؟ فالرجل قال: نعم، دعوت الله سبحانه أنه ما كان معاقبي به يوم القيامة فليعاقبني به في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه) يعني: لماذا تدعو على نفسك بهذا الشيء؟! فنهاهم أن يدعو على أنفسهم إلا بخير، وأخبره أنه لا يطيق ذلك، وأن رحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فهذا رجل بلغ من تقواه وخوفه من الله أن يسأل الله عز وجل أنه ما سيعاقبه به يوم القيامة فليعاقبه به الآن، ورفض منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كل إنسان دعا على نفسه بذلك فابتلى الله عز وجل العباد، فهذا إنسان تقي وأصيب بذلك، فالشقي كيف سيكون؟! قال الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:٦١]، والتأخير له حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، لعل العباد يتوبون إلى الله، ويرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويراجعون أنفسهم، فإن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وانظروا إلى قوم يونس قال الله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:٩٨]، فيونس النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه فترة طويلة فلم يستجيبوا، فحذرهم من عقوبة رب العالمين، فظلوا على ما هم عليه، وأصروا على طغيانهم؛ فخاصمهم وخرج من عندهم بعدما هددهم بأن العذاب سيأتيهم بعد ثلاثة أيام، فلما غادر القرية وخرج مغاضباً لقومه إذا بهؤلاء القوم يفيقون ويراجعون أنفسهم، فقالوا: النبي الذي كان فينا خرج وتركنا فالعقوبة آتية لا محالة، فإذا بهم يفرقون بين الرجل وبين امرأته، وبين الابن وبين أمه، ويبتهلون إلى الله أن يكشف عنهم ما سيأتيهم به من العذاب، فإذا بالله عز وجل يتجاوز عنهم.
وركب يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام البحر تاركاً قومه ليدعو أناساً آخرين، ولكنه أخطأ حيث لم يستأذن ربه سبحانه تبارك وتعالى في ذلك، وذهب مغاضباً لقومه، قال الله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:٨٧] أي: ظن أن الله لن يضيق عليه، كما قال الله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:٢٦] أي: يضيق، فظن أن الله لن يضيق عليه، وأرض الله واسعة، فذهب إلى أرض أخرى يدعو أهلها، وهذا أمر مباح لأي داع إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فليس من حق النبي أن يخرج من مكان إلى مكان إلا بإذن الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام خرج وظن أن الله لن يضيق عليه في ذلك، وظن أن في الأمر سعة، فلما خرج إذا بالسفينة التي ركبها لا تجري بهم في البحر، وكادت أن تغرق! فإذا بالقوم يتعجبون مما حصل في السفينة، فقالوا: فيها عبد آبق، فعلم أنه قد خرج بغير إذن الله عز وجل فحكمه حكم العبد الهارب من مولاه، وقالوا: لا بد أن ينزل من هذه السفينة، فقال: أنا أنزل من هذه السفينة، فرفضوا، كيف ينزل نبي الله عليه الصلاة والسلام؟ فقالوا: نعمل قرعة، فقرعوا فإذا القرعة تطلع عليه ثلاث مرات، فألقى بنفسه في البحر، فإذا بالله عز وجل يرسل حوتاً فيبتلعه، ويأمره الله سبحانه تبارك وتعالى أن يحافظ عليه ولا يأكله، فإذا به يدعو ربه سبحانه، وقومه كانوا يدعون هنالك، فكشف الله عز وجل عنهم العذاب، وهو يدعو في بطن هذا الحوت، وفي الليل المظلم، وفي ظلمات البحر، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٨٧]، اعترف بأنه أخطأ في ذلك.
فإذا بالله سبحانه يرحمه ويأمر الحوت أن يلقيه على الشاطئ، قال الله: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) وهو سقيم مريض، بسبب كونه داخل الظلمات وتحت ضغط الماء في الداخل، فخرج وهو مريض في ذلك المكان، {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:١٤٢] يعني: آت بما يلام عليه، لامه الله عز وجل على ما صنع، قال الله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:١٤٦]، شجرة من القرع، يأكل من ثمرها، ويستظل بظلها، ويشرب من مائها، فمكث تحت هذه الشجرة، ويونس النبي عليه الصلاة والسلام ليس هيناً على ربه سبحانه، ولكن الله سبحانه تبارك وتعالى يرينا كيف يؤدب أنبياءه وأولياءه سبحانه تبارك وتعالى، وكيف يؤدب خلقه، عفا عن هؤلاء لما غيروا وتابوا، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:١١]، والله رحيم بالعباد سبحانه تبارك وتعالى، لذلك عفا عن هؤلاء لما تابوا إلى الله عز وجل، ويونس بقي على شاطئ البحر، وأنبت عليه شجرة من يقطين، وكان في حالة ضعف شديدة، فكان يأكل منها وترجع إليه القوة في جسده، وإذا بالله سبحانه ييبس هذه الشجرة بعد أن كانت مورقة، فإذا به يبكي ويحزن على هذه الشجرة، وهنا يعطيه الله عز وجل الحكمة من عنده سبحانه، فقال له: حزنت على شجرة أن أهلكت ولا تحزن على قومك وهم ألوف أن نهلكهم في لحظة! انظروا إلى رحمة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.
فلذلك ربنا يخبرنا أنه إذا ظهر الفساد في الأرض فراجعوا أنفسكم، فأنتم السبب في هذا الفساد، تتركون أوامر الله سبحانه، وتفعلون مناهي الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالإنسان إذا بدل وغير في شرع الله سبحانه، وفي أحكام الله سبحانه، وفي طاعته لله، فبعدما كان مطيعاً صار عاصياً؛ لا ينتظر من الله عز وجل إلا أن يعاقبه على ذلك، لكن الله سبحانه يؤخرهم لعلهم يرجعون ويتوبون إلى الله سبحانه، ويذيقهم شيئاً من العقوبة كما قال هنا سبحانه: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].
فالله عز وجل يعاقب العبد لعله يراجع نفسه، ويؤخر عنه العقوبة الشديدة والهلاك لعله يرجع إلى الله، وإذا استمر على عناده فإن سبحانه يأخذه أخذ عزيز مقتدر.