للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة كل حزب بما لديهم فرحون)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:٥٢ - ٦١].

لما أمر الله عز وجل الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يأكلوا من الطيبات، وأن يعملوا صالحاً، وأخبر أنه بما يعملون عليم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢]، وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:٥١])، فذكر أن الرسل مأمورون بأن يأكلوا من الطيبات، وأن المؤمنين كذلك مأمورون بما أمر به المرسلون عليهم الصلاة والسلام، والله بما يعمل الجميع عليم سبحانه، وفيها من التهديد ما فيها، أن الإنسان إذا لم يأكل من الحلال ويترك الحرام فالله به عليم، وإذا كان الله عليماً بما يعمل هذا الإنسان فسوف يحاسبه ويعاقبه، ولا مفر له من ربه سبحانه وتعالى إلا أن يتوب إلى الله.

ثم قال الله سبحانه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، وقد قلنا: إن كلمة (أمة) تأتي بمعانٍ عدة، والمعنى المقصود هنا: أن الأمة بمعنى: الملة، أي: وإن هذه ملتكم، فهي ملة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والملة التي ارتضاها الله عز وجل هي الدين، قال تعالى: {ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، فهو دين الإسلام، والمعنى: إن هذا دينكم دين واحد، وهو دين التوحيد، وهي عقيدة واحدة أُرسل بها جميع الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، يدعون إلى قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:٣٢]، أي: يدعون إلى (لا إله إلا الله) إلى دين واحد، وأخبرنا سبحانه وتعالى أنهم يتفرقون في ذلك، فقال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، وأخبر الله سبحانه بقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:١١٨ - ١١٩]، فلا يزال الناس مختلفين، والله عز وجل يعلم ذلك، وخلقهم وقدر عنده ما يكون من أمر عباده، فالعباد مهما جاءهم من عند الله من كتاب أو شريعة فمنهم مؤمن ومنهم كافر، والمؤمنون منهم لا يزالون مختلفين فيما بينهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، فكلهم يقولون: لا إله إلا الله، ولكن يتنازعون فيما بينهم في أشياء؛ فيفرقون دينهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:١٥٩]، فقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن اتخذ دينه لعباً، وممن اتخذ دينه فرقة يفرق فيه بما يشاء ويتبع هواه، ويتبع غير سبيل المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يحذرنا من التفرق.

وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ} [الأنبياء:٩٢]، فالرب واحد، وبذلك يكون الدين واحداً، والله سبحانه وتعالى هو الرب وهو الذي شرع هذا الدين سبحانه، فالعبيد عبيد لله سبحانه، فلا بد أن يتبعوا منهج الله فيكونوا على ملة وعلى دين واحد، ولكن جاء الشيطان فنزع الناس من دين ربهم إلى الأهواء فـ (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي: كل إنسان فرحٌ بما هو فيه من أهواء، ومن بعد عن دين الله، ويظن أنه على الحق.

قال سبحانه: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)، أي: تقطعوا أمر دين رب العالمين، وأمر شرعه سبحانه، تقطعوه فيما بينهم، فكل إنسان أخذ بشيء واتبع هواه في أشياء، فتقطعوا الدين زبراً، والزبر: القطعة، أي: كل واحد أخذ قطعة منه ولم يتوحد الجميع، والله سبحانه وتعالى يقول: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:٦٣]، فالإنسان المؤمن يأخذ دين الله سبحانه كتاباً وسنة، ولكن الذي ينزع بشيء فيأخذه ويترك باقي الأشياء، فهذا من الذين اتبعوا أهواءهم.

قال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)، أي: قطعاً، (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي: هؤلاء يفرحون بهذا الجزء وهؤلاء بهذا الجزء، وكل منهم يتمسك بشيء ويترك أشياء لا يأخذ بها، فيفرح بما أخذ ولا ينعى على نفسه أنه ترك باقي هذا الدين العظيم.

وأهل البدع وأهل الضلال كل إنسان منهم يقول: لا إله إلا الله، لكنه يبتدع ويخترع في دين الله، ويفرح بما اخترعه وابتدعه، ويظن أنه على شيء، فهو ترك الكتاب وترك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفرح ببدعته، ولعله يترك واجبات من واجبات الدين، ويظن أنه على خير، ويظن أنه على صلاح وعلى تقوى، والله عز وجل يخبر عن حال هؤلاء أهل البدع والأهواء أنهم فرحون بما هم فيه.

ولذلك كان صاحب المعصية قد يرجى أن يتوب سريعاً إلى الله سبحانه وتعالى، وصاحب البدعة تتباطأ عنه توبته، وصاحب المعصية يعرف أنه عاصٍ، فلعله يندم على المعصية ويتوب، أما صاحب البدعة فهو فرحٌ بما هو فيه، فلذلك لا يراجع نفسه، فقلَّ أن يتوب صاحب البدعة ويراجع أمر دينه ويرجع إلى ربه سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى وسم هؤلاء بأنهم في فرح بالذي هم فيه، ويظنون أنهم على شيء، ويحسبون أنهم مهتدون.

<<  <  ج:
ص:  >  >>