[موقف أنس بن النضر يوم أحد]
قال أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه: فشهد يوم أحد، يعني: عمه أنس بن النضر.
قال: فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون؛ لأن أكثر المسلمين فروا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نصرهم الله في البداية بثباتهم وبطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما طمع الرماة في الغنيمة، وتركوا أماكنهم التي حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتركوها، ونزلوا يجمعون الغنيمة، جعل الله عز وجل الدائرة عليهم بعدما انتصروا، فهزموا هزيمة منكرة؛ بسبب معصيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى أنس بن النضر في يوم أحد المسلمين منهزمين قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء.
أي: الذين هربوا، يعتذر لله عز وجل مما لا ذنب له فيه، ولكنه قال ذلك تأدباً مع الله.
قال: وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المشركين.
ثم تقدم للقتال، في وقت كان الكفار فيه أربعة أضعاف المسلمين.
وقد كان عدد جيش المسلمين يوم أحد ألفاً ويزيدون قليلاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، ثم عاد المنافق الملعون عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث جيش النبي صلى الله عليه وسلم من الطريق، وهرب به، راجعاً إلى المدينة، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بين الستمائة إلى السبعمائة من المسلمين.
فكان الكفار أربعة أضعاف المسلمين عندما فر هذا المنافق عن النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه.
فلما وجد أنس بن النضر المسلمين منهزمين يوم أحد قال لله عز وجل: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وتقدم لهذا الجمع العظيم من الكفار ليقاتل وحده رضي الله عنه فيراه سعد بن أبي وقاص رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان أيضاً من الشجعان.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: إنه استقبله وهو آت، وفي رواية أخرى: أنه استقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر.
يقسم بالرب سبحانه وتعالى أنه ينظر إلى الجنة، فيقدم على الكفار وكأنه يرى الجنة أمامه، فيقول: إني أجد ريحها دون أحد.
أي: أشم رائحة الجنة دون أحد.
قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع.
يعني: وهو من الشجعان، قال: ولكن ما قدرت أن أفعل ما فعله هذا الرجل العظيم رضي الله عنه.
قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، والإنسان قد يضرب ضربة أو ضربتين فيقع، وهذا وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فكم الذين هجموا عليه رضي الله تعالى عنه حتى يتسنى لأحدهم أن يضربه بالسيف، والثاني يرميه بالرمح والثالث يرميه بالسهم؟ لا شك أنهم كانوا مجموعات كثيرة من الكفار قد هجموا على هذا الرجل الواحد من المؤمنين، رضي الله تبارك وتعالى عنه، حتى قتلوه.
فمن شدة ما صنع بهم اغتاظوا منه، فمثلوا به وشوهوه، وقطعوه حتى لم يعرفه أحد، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه، أي: بأصبعه؛ فقد قطعه الكفار ومزقوه، حتى لم يعرف وجهه من جسده وإنما عرف بأصبعه، رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان في أصبعه أثر فعرفته أخته بهذا الأثر، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال أنس رضي الله عنه: فكنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه، يعني قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٢٣]، وأخته تسمى الربيع بنت النضر.
وقد كانت عائلة أنس بن مالك رضي الله عنه عائلة عفيفة جداً، هذا عمه أنس بن النضر رضي الله عنه الذي عرفناه، وأمه هي أم سليم، وخالته أم حرام بنت ملحان رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، وزوج أمه أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه.