تفسير تعالى:(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:٦٣ - ٦٧].
في هذه الآيات من آخر سورة الفرقان يخبرنا الله عز وجل عن عباد من عباده ذوي صفات عظيمة جميلة اختصهم الله عز وجل بها، ووصفهم بأنهم عباد الرحمن، والرحمن من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، وهو اسم عظيم فيه الرحمة العظيمة، قال سبحانه:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:٦٣]، والإنسان الهين يعني: السهل الذي فيه سكينة ووقار، فهم يمشون على الأرض مشية هينة، وفيهم تواضع وإخبات لله سبحانه وتعالى، فلا يستكبرون على الخلق، وليس المعنى أنها: مشية بطيئة، ولكن المعنى: أنهم يمشون ولا يضربون بأرجلهم، ولا يغترون ويحركون أذرعاتهم، ويقولون: نحن أقوياء وأعلى من غيرنا، ولكنهم يمشون بوقار وسكينة، وهذا لا يمنع من أن يمشوا بسرعة في حاجاتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيخبرنا الله سبحانه: أن من صفاتهم: أنهم حلماء متواضعون، وأن فيهم اقتصاداً وتؤدة وسكينة، قال تعالى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:٦٣]، وليس معنى الجاهل: أنه الذي لا يعرف القراءة والكتابة، فهذا أمي، ولكن المقصود به هنا: الجاهل في خلقه، فقد يكون متعلماً إلا أن في أخلاقه نفوراً وشراسة وقسوة، وقد يكون فيه غضب، وإذا غضب لا يفهم ولا يعي ما يقول، فهؤلاء أهل الشراسة والنفور والصياح والجلبة والصخب إذا خاطبوا عباد الرحمن بصورة غير طيبة كان ردهم عليهم رداً طيباً، كما قال تعالى:{سَلامًا}[الفرقان:٦٣]، يعني: موادعة ومتاركة وليس بيننا وبينكم شيء، ولكن نبتعد عنكم ونترككم فيما أنتم فيه، أو قالوا: سلاماً، أي: تسليم متاركة، يعني: سلام عليكم، كونوا في حالكم ونكون نحن في حالنا، مع أنهم أقوياء وهم لا يدفعون السيئة بالسيئة، ولكن يدفعون بالحسنة السيئة، ويرجون الخير ممن يدعونه إلى الله سبحانه وتعالى من الله وحده، فهم حلماء في دعوتهم إلى الله، وهم أقوياء لا يستذلهم أهل الفساد، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما أمر الله سبحانه بقوله:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران:١٠٤].
والإنسان القوي يقدر على الانتقام من خصمه ولكنه يتواضع لله سبحانه وتعالى، ويحلم ويصبر، ولكنه لا يهين دين الله أبداً، فإذا وجد من يهينه أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وغير هذا المنكر بما استطاع من تغيير، وأما في نفسه فإذا تعرض له إنسان أو شتمه فإنه يحلم ما لم يتعرض لدين الله سبحانه وتعالى، فإذا تعرض لدين الله فإنه يغضب لله ويدافع عن دين الله، وفي أثناء دعوته للناس إلى دين الله قد يجد منهم غلظة وقسوة في الجواب، فيصبر على ذلك، ويدعوه مرة وثانية لعله يستجيب له، فإذا لم يجد فائدة قال:{سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص:٥٥]، أي: ليس بيننا وبينكم إلا أمر الله سبحانه وتعالى يحكم بيننا، وهو في تواضعه لا يذل نفسه؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه قالوا: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق).
أي: أن الإنسان يعز نفسه، ولا يعرض نفسه للذل، ولا يتعرض لبلاء لا يطيق دفعه، ولكنه يدافع عن دين الله، ويدعو الناس إلى الخير ويصبر، وليس بمجرد أن يسيء إليه إنسان يرد الإساءة بالإساءة، ولكنه يصبر ويحلم ويدفع بالتي هي أحسن، فإذا لم يجد بداً من المتاركة تاركه، قال تعالى:{سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}[القصص:٥٥].
فإذا تعرض لدين الله سبحانه بالإساءة، فإنه يدفع ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بما أمر به ربنا وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).