[تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)]
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:٨٧ - ٩٠].
يخبر الله عز وجل في هذه الآيات عن يوم القيامة، يوم ينفخ في الصور، وذكر سبحانه وتعالى في القرآن نفختين، قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨]، فالنفخة الأولى وهي نفخة الصعق التي يميت الله عز وجل بها الخلائق، والنفخة الثانية يبعثهم، وبينهما أربعون، فلعلها أربعون يوماً، ولعلها أربعون سنة أو شهراً، فلم يذكر راوي الحديث - أبو هريرة - ما الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل هو نفسه لم يعرف هل هي أربعون يوماً أو سنة أو شهراً؟ ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون).
وليس من الضروري أن يعرف المسلم ماهية هذه الأربعين، بل المهم أن هناك موت وبعد ذلك إحياء، ولكن الله عز وجل ذكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعين.
قوله: ((وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ))، (يوم) منصوبة بفعل محذوف تقديره: اذكر، والتقدير: اذكر هذا اليوم، وقوله: ((فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ))، هذا هو الفزع الأكبر الذي يكون يوم القيامة، وينجي الله عز وجل من هذا الفزع الأكبر من يشاء من عباده، فينجي المؤمنين الصالحين: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:١٠٣]، وهم في الجنة خالدين، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم.
وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل من الفزع الأكبر، يوم يقوم الناس بين يدي رب العالمين سبحانه، فكان من دعائه عليه الصلاة والسلام، ما رواه أحمد في مسنده عنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك مما أعطيتنا وشر ما صنعت).
فكان يسأل الله عز وجل النعيم يوم القيامة في الجنة، والذي لا يحول ولا يزول، أي: لا يتحول، أما النعيم في الدنيا فهو بين الإحالة وبين الزوال، والإنسان يتحول من حال إلى حال، ومن غنى إلى فقر، ومن فقر إلى غنى، وهكذا فحال الإنسان متحول ومتقلب في الدنيا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة) ويوم العيلة: يوم الفقر، وهو يوم القيامة، فكل إنسان في ذلك اليوم فقير لا مال له، إلا أن يكون له عمل صالح ينفعه.
و (والأمن يوم الخوف)، وهو يوم القيامة: يوم الفزع الأكبر، وفيه ينجي الله عز وجل من يشاء من عباده، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الناجين.
يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:٨٧]، هذه هي النفخة الثانية، وفيها يقوم الخلق فزعين خائفين بين يدي رب العالمين، إلا من شاء الله أن ينجيه ويؤمنه من هذا الفزع، ويحشره في غاية الأمن، ويظله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ))، التنوين في لفظة (كل) تنوين عوض عن كلمة: الخلق، والتقدير: كل الخلق، و (أتوه): أي: يأتون الله سبحانه، وأتوا: فعل ماض من يأتي.
((وَكُلٌّ أَتَوْهُ))، وهذه قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة وقراءة خلف.
وقراءة باقي القراء وهم الجمهور: (وكل آتوه داخرين)، من اسم الفاعل: أتى فهو آت، أي: وكل إنسان آتٍ إلى الله عز وجل.
وقوله: ((وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ))، أي: أتوا إلى الله سبحانه وتعالى يوم ينفخ في الصور وهم في غاية الذل والصغار، وفي غاية الخوف.