بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
يذكر الله سبحانه في هذه الآيات وما قبلها قصة موسى النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنه دعاه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فأعرض فرعون وأبى إلا أن يجادل ويكذب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ورأينا كيف أنه تناقش مع موسى من منطق القوه وليس من منطق الحجة، فناقش موسى بالقوة والغلبة وبكثرة أتباعه، وصار يستهزئ بموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فذكر هنا وفي غيرها من سور القرآن أن فرعون ناقشه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال لموسى:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:٢٣]؟ فقال مجيباً له:{رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}[الشعراء:٢٤] قال لقومه: ألا تسمعون؟ قال:{رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[الشعراء:٢٦ - ٢٨].
فالكلام الذي يقوله فرعون لا حجج فيه ولا منطق، وهو كلام يفهم منه أصحاب العقول أنه لا حجة عند صاحبه، وأنه يقول كلاماً جزافاً، حيث سأل: وما رب العالمين؟! ثم قال لمن حوله يعجبهم من جواب موسى: ألا تستمعون؟! والإنسان الذي يتعجب من غير عجب يسمى بالإنسان الأحمق الذي لا يفهم، وأما الإنسان العاقل فهو الذي يفهم الكلام ويزنه فيعرف أنه حق أو باطل، وأما الأحمق الذي لا يدري ما الحجة ولا يعرف كيف يجادل فهو الذي يتعجب من حجة لا يعرف كيف يرد عليها، فهذا هو حال فرعون عندما قال لمن حوله: ألا تستمعون إلى هذا الذي يقوله هذا؟! فلما أخبرهم بأن الله هو رب السماوات ورب الأرض وما بينهما، وأنه رب المشرق والمغرب، وأن فرعون لا يملك شيئاً، وليس كما يزعم أنه ربهم الأعلى، فإذا بفرعون يقول لمن حوله في السورة الأخرى:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}[الزخرف:٥١]، فكأنه يقول: أنا ملك وأنا أملك، فموسى يقول: ربي ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا))، وأنت تقول: لك ملك مصر التي لم تخلقها ولا تقدر أن تدبر شيئاً فيها! وإنما الذي يدبر أمر ملكه هو الله الخالق وحده لا شريك له.
قال الله عن فرعون:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:٥١ - ٥٢]، فبدلاً من أن يلقي الكلام مدعوماً بالحجة ابتدأه بالسخرية من العيب الذي في الإنسان، وهذا هو الذي يدل على جهل صاحبه، فالإنسان الجاهل الغبي الأحمق هو الذي يترك حجة من يناظره ويبتدئ اتهامه بالعيوب الخلقية، مع أن هذا العيب قد أزاحه الله عز وجل عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن عندما لم يكن بيده شيء قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ}[الزخرف:٥٢] أي: هذا الحقير الذي أمامكم الذي لا يكاد يبين حجته، لأن موسى قبل ذلك كان في لسانه لثغة لا يقدر على الكلام، فقال لربه:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}[طه:٢٥ - ٢٨] إذاً: حتى أفصح الكلام داوي ما بلساني من عقدة، فكان قبل ذلك فيه لثغة، ففرعون يذكره بالماضي من أنه كان لا يعرف كيف يتكلم ولا ينطق بفصاحة، فيقول لقومه: أنا خير من هذا الذي لا يعرف يتكلم، ولا يجيد التعبير ولا الحديث.
فكل الذي رآه فرعون أمامه من الآيات كذبها، فالله عز وجل أخذهم {بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}[الأعراف:١٣٠]، قال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ}[الأعراف:١٣٣]، فكل هذه الآيات ما أعجبت فرعون، وإنما يريد أسورة من ذهب تنزل عليه من السماء، {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}[الزخرف:٥٣ - ٥٤] يعني: في هذا، فقد كانوا خفاف العقول فلم تعجبهم تلك الآيات مجاملة لفرعون، فأصحاب القوة يجعلون لهم من المنافقين من يجاملونهم بمثل ذلك، حتى ولو رأوا أمامهم الآيات بينات فلا يأخذون بها.
وانظر إلى الفرق بين هؤلاء وبين السحرة الذين أنعم الله عز وجل عليهم فآمنوا لما رأوا آية واحدة من الآيات، فقد رأوا العصا بيد موسى يقلبها ربها سبحانه حية تلقف ما يأفكون.