[تفسير قوله تعالى: (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها)]
قال تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:٤٢]، يعني: لقد كاد يضلنا ويلهينا ويصرفنا عن عبادتنا، أي: عبادتهم الباطلة التي يقولون: إنهم سيصبرون عليها، {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} [الفرقان:٤٢]، ليصرفنا، {عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان:٤٢]، الباطلة، ولولا: {أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:٤٢]، أي: حبسنا أنفسنا على عبادتها.
فهم يعلمون أن هذه آلهة باطلة، لا تنفع ولا تضر، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينفعهم ويضرهم، وهو الذي يرزقهم، وهو خالقهم سبحانه بشهادتهم بذلك، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، ومع ذلك صبر الكفار على العبادة الباطلة، أفلا يصبر المسلمون على عبادتهم الحقة؟! فهؤلاء الكفار دافعوا عن باطلهم، وقاتلوا المسلمين، وذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وفي يوم أحد، وفي يوم الأحزاب لقتال المسلمين، وهم يعلمون أنهم أهل باطل، أفلا يصبر المسلمون على دين رب العالمين وهم يعلمون أنهم على الحق، وقد وعدوا الجنة؟! الكفار يقولون: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، أي: سنموت ونحيا في هذه الدنيا، يعني: حياة ثم موت وانتهى كل شيء؛ فلذا ما معنا إلا ما أخذناه في الدنيا من الدنيا، فهم على باطل، ويعرفون أنهم على الباطل وليسوا على الحق، فصبروا على باطلهم الذي هم عليه، وقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن أبا جهل وهو ملقى على الأرض لعنة الله عليه وعلى أمثاله قتيلاً يأتيه ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه ويصعد فوق صدره فيقول لـ ابن مسعود: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم! يعني: يصغره تحقيراً له يعني: يا راعي الغنم! صعدت فوق صدري وأنت راع، يقول هذا الشيء حال سكرات الموت، ويأبى الله عز وجل له الهداية حتى وهو في موته، فتصعد روحه وهو يقول هذا الشيء.
فيقول له ابن مسعود: لقد انتقم الله منك يا عدو الله! فيقول له: وهل أنا إلا رجل قتلني بعض قومي، أي: شخص من أناس قتلهم بعض قومهم، ويموت على هذا الشيء، انظر إلى دفاعهم عن باطلهم حتى الوفاة! رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقاتل فيقول: ضربت رجلاً من المشركين بالسيف على عاتقه ضربة قال: فأخذني فخنقني، -حضنه بساعده- حتى كادت روحي أن تخرج وتزهق بذلك، ثم أردته الوفاة فمات هذا الرجل، وانطلق صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.
فانظر إلى هذا المضروب ضربة بالسيف أدركته الوفاة من هذه الضربة، ومع ذلك يصر على أن يخنق من ضربه، ولا يمن الله عز وجل عليهم بالهداية وهم أهل باطل يعلمون أنهم على الباطل، ويقول: {اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:٦].
وهذا دأب الكفار والمشركين في كل زمان، فيصبر بعضهم بعضاً على آلهتهم، والإنسان يفكر بعقله: ما الذي يجعلني أصبر؟! إما أن أصبر لأتجمل مع الناس، أو أصبر لكي آخذ الأجر يوم القيامة، أو أصبر ليكون جزائي في الدنيا مثلاً.
فالكفار يقولون: اصبروا، فنقول لهم: وماذا تأخذون عندما تصبرون على هذه الآلهة؟! أما في الآخرة فلا شيء لهم، وأما في الدنيا فقد يأخذون وقد لا يأخذون، قد ينتصرون فإذا انتصروا فالسادة هم السادة والضعفاء هم الضعفاء ولن يتغير شيء من حالهم، فعلى ذلك تحصيلهم في الدنيا شيء يسير حقير ليس له قيمة، أن يحصلوا على مناصب وأموال، أما المؤمن الذي يعده ربه سبحانه وتعالى أن يصبر وله الجنة، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥]، أفلا يغار المسلم حين يرى هؤلاء يصبرون على باطل وهو لا يصبر على الحق الذي هو عليه؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر).
ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الواحد من هؤلاء يعمل العمل ويكون له أجر خمسين رجلاً من أصحابه، وفي رواية: (يكون له أجر خمسين شهيداً) فهذا الأجر العظيم الذي يكون للقابض على دينه كما يقبض الإنسان على الجمر، وللمتمسك بدينه، الجنة عند رب العالمين، وله وعد الله عز وجل بالعزة في الدنيا والتمكين إذا صبر على ذلك، وله إحدى الحسنين: إما النصر وإما الشهادة، وله عند الله سبحانه حبه ورضاه في الجنة والحور العين.
المسلم أمامه كل هذا الثواب، والكافر لا ثواب له فيصبر ويقول: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:٦]، يقول الله سبحانه عن هؤلاء الكافرين: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:٤٢]، أي: لولا أننا صبرنا على هذه الآلهة لصرفنا عنها {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٢]، وفي كلامهم إشارة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في الدعوة، وحجته البينة القوية.
وفي الآية إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك وسيلة ولا سبيلاً للدعوة إلى الله عز وجل إلا وسلكها صلوات الله وسلامه عليه، يقول الله عز وجل: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الفرقان:٤٢]، أي: اصبروا فسترون النتيجة، {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٢]، قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: سوف تعلمون من أصحاب الضلال، ومن أصحاب الصراط السوي، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٢]، أي: طريقاً يوصل إلى النار.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:٤٣]، عبدوا الآلهة من دون الله سبحانه، والآلهة أنواع، فيعبدون أصناماً وأوثاناً وأحجاراً، ويعبدون الشمس والقمر، ويعبدون النجوم والبروج، ويعبدون أشجاراً، ويعبدون الهوى من دون الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله يعبد من دون الله، وتلا هذه الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣]، فالهوى يدعو الإنسان إلى طاعة الشيطان والبعد عن الرحمن سبحانه، فإذا به يعبد ما يشاء، ويترك عبادة الله، ويكفر بالله، فهو عابد لهواه ولشيطانه {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣]، قالوا: كانت العرب إذا أحبت شيئاً عبدته من دون الله، فإذا هوى الرجل منهم شيئاً عبده من دون الله، فإذا رأى ما هو أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، فكان يأتي بحجر يراه جيداً فيقوم ينحته صنماً ويعبده من دون الله، فإذا رأى حجراً آخر أفضل من الأول نحته صنماً وترك الأول وعبد الثاني؛ فعبدوا الهوى، وعبدوا آلهة بأهوائهم الباطلة وبأكاذيبهم، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:٤٣]، (أَرَأَيْتَ) استفهام، وهذه الكلمة فيها قراءات، (أَرَأَيْتَ) قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر بالتسهيل، (أَرَأَيْتَ)، وقراءة ورش بالمد الطويل فيها (أَرَآيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، وقراءة الكسائي بدون مداخلة: (أَرَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))، يعني: هل علمت؟ أو هل رأيت ببصرك ما يصنعون ويعبدون من دون الله سبحانه؟ قوله: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:٤٣]، يعني: هذا الذي اتبع الهوى هل أنت حفيظ عليه؟! هل أنت كفيل وضامن لهذا الإنسان؟! أنت لا تملك لنفسك شيئاً فضلاً عن أن تملكه لغيرك، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٨]، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:٩٩]، فإذا كان ربنا يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغيره أولى، فلا يملك الداعي إلى الله عز وجل أن يغير قلوب الخلق، وإنما يملك أن يتكلم بالحجة والبرهان، وأن يقنع ويعلم ويرشد، ويدل على الخير، لكن التحويل من شيء إلى شيء هذا لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:٦٣]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم بمعنى: يدل، ولكنك: {لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦] أي: لا تغير ولا تحول، وإنك لا تهدي إلى صراط مستقيم، وإنما تدل الناس على طريق الخير، وتعلم الناس الخير، وتحذرهم من الشر.
أما الذي يحول القلوب من شيء إلى شيء فهو الله سبحانه وتعالى الذي يملك ذلك، ولذلك قال لهم هنا: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:٤٣]، وهذا استفهام إنكاري، والمعنى: لست عليهم حفيظاً، ولست عليهم وكيلاً، فإنما الله عز وجل هو الحفيظ والوكيل، والله هو الذي يغير القلوب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرشدنا إلى سواء السبيل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.