[تشوف الإسلام إلى إعتاق العبيد]
ثم قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:٣٣] وهؤلاء هم ملك اليمين، وهم العبيد والإماء، فلهم حقوق كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم) فالله عز وجل جعل هؤلاء العبيد تحت أيدي الأحرار يملكونهم، والله يفعل ما يشاء، وقد كان الرق قبل الإسلام منتشراً جداً، وكان موجوداً عند العرب في الجاهلية وعند اليهودية والنصرانية وعند الكفار من هنود وبوذيين وغيرهم من الأمم، فجاء الإسلام على هذا الوضع الموجود، فلو أنه بدأ وقال: حرروا الرقاب، لما أطاق أحد أنه يفعل ذلك، وما نفذوا ذلك؛ لأن الرقاب التي في أيديهم أموال، فالواحد يشتري بماله عبداً أو عبدين أو ثلاثة؛ ليعلموا ويأخذ منهم الأجرة على العمل الذي عملوه، وهو يملكهم ويبيعهم، فلو أنه حرم عليهم ملك العبيد وأمر بتحرير كل العبيد لما استجابوا لذلك.
ولذلك جاء الإسلام يريد أن يحرر هؤلاء العبيد، ولكنه لم يأت بوجوب إعتاق الرقاب مطلقاً، ولكن جعل ذلك في الكفارات مثل كفارة القتل خطأً أو عمداً، فيحرره إذا كان قبل عمداً واستحق بذلك النار؛ فلعل الله عز وجل أن يعفو عنه.
فالإنسان الذي قتل خطأ الكفارة التي عليه أن يبدأ بالعتق، والإنسان الذي يحلف يميناً فعليه كفارة ويبدأ بتحرير الرقبة، والإنسان الذي يظاهر من أهله عليه في الكفارة تحرير رقبة، والذي يفطر عمداً بجماع في نهار رمضان عليه كفارة تحرير رقبة.
فجعل كفارات كثيرة أول ما يبدأ المكفر فيها يبدأ بتحرير الرقاب، فهذا هو ما يجب فيه تحرير الرقاب، وما سوى ذلك فقد جعل تحرير الرقاب مستحبا، ً فمن خاف من النار يوم القيامة أعتق عبداً يكون فكاكاً من النار.
وأمر الله المسلمين أن يجعلوا جزءاً من زكاة أموالهم في عتق الرقاب، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:٦٠]، فقوله: (وفي الرقاب) يعني: جعل شيء من زكاة ماله لعتق العبيد.
وقد جعل من ذلك أيضاً عتق المكاتَب، فإذا وجد السيد في عبده خيراً وعلم منه صلاحاً وتديناً وأمانة وقدرة على الكسب ولا يوجد مانع من عتقه أعتقه، وقد يقول الإنسان: هذا مالي فكيف أضيعه من يدي ببساطة؟! فلما علم الله شح النفوس جاء بطريقة ثانية فحْواها ألا يضيع مال السيد، بل يترك العبد يعمل ويدفع ثمن نفسه، فيكتب عقداً بينهما أنه يدفع ذلك خلال سنتين مثلاً، ثم يكون بعد ذلك حراً.
فانظروا كيف حرر العبيد، فمرت السنون والأعوام وإذا بكل العبيد يعتقون، ولا يوجد رق بعد ذلك.
وانظر الفرق بين الإسلام وبين الغرب الكافر فلما أراد الأمريكان أن يحرروا العبيد صدر بذلك قرار جمهوري، فوقعت حرب أهلية بين الناس، ودام القتال سنوات طويلة بين أصحاب المال ومن يريد أن يتحرر.
أما الإسلام من فقد حرر العبيد من غير إراقة دماء، ولكن حرر هؤلاء خلال سنين طويلة.
فالإسلام يخاطب القلوب والعقول، ويذكر بالآخرة، ويربط العامل بدخوله الجنة، والنجاة من النار، فجاءت هذه الآية في الكتابة، والكتابة: هي العقد بين السيد والعبد سواء كان ذكراً أو أنثى.
فيقول لهم سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:٣٣] فالعبد يطلب من سيده أن يحرره، فهذا معنى قوله: (يبتغون)، فلا يتعنت السيد فيمنع ذلك، لكن طالما أن العبد يقدر على أن يأتي بثمن نفسه، وهو عبد صناع فلا مانع أن يكتب معه عقده، قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:٣٣] وملك اليمين هو العبد أو الأمة.
قال: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:٣٣]، هذا أمر من الله للسادة بالكتابة، قال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣] يعني: إن علمت في هذا الإنسان أمانة وتديناً وصلاحاً وقدرة على الكسب فكاتبه.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن عقد الكتابة في هذه الحالة واجب، واحتجوا بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:٣٣]، وهذا أمر من الله فيحمل على الوجوب.
لكن الجمهور قالوا: هذا الأمر على الاستحباب، وقرينة صرفه عن الوجوب قوله في الآية نفسها: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣]، والخير والصلاح والتدين والأمانة شيء قلبي ولا أحد يطلع عليه، فالسيد لم يعلم إلا بالظاهر، وقد يكون الباطن خلاف ذلك، فقد يظهر ذلك ليعتق.
وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا وجد من عبيده من هو محافظ على العبادة اعتقه، فكان عبيده يتظاهرون أمامه بذلك، فكان يعتقهم.
ففال له الناس: إن هؤلاء يخدعونك وإنما يفعلون ذلك أمامك فقط، فكان يقول: عبد الله بن عمر رضي الله عنه: من خدعنا بالله انخدعنا.
فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان صادقاً مع الله، وتأمل الفرق بيننا وبينه، فنحن نحاول أن نكون أذكياء، لكن الصحابة كان ذكاؤهم فطرياً، فهم لا ينخدعون ولكن يتغافلون.
والمؤمن يتعامل مع الله سبحانه وتعالى، فإذا وجد إنساناً يظهر الصلاح اعتبره صالحاً، ولا يشغل نفسه به: هل هو صادق أم لا؟ لأن الله سبحانه هو الذي سيتولى حسابه، فلماذا يضيع وقته معه ويقعد يرقبه ليتأكد من صلاحه؟! لذلك كان الصحابة أفطن وأعلم بأمر الدنيا والآخرة منا، فنحن نقعد نفتش وننقب ونبحث فيضيع وقتنا بدون فائدة، لكنه ببساطة يقول: من خدعنا بالله انخدعنا.
يعني: نحن عملنا هذا العمل لله، فلنا الأجر عند الله، وهم حسابهم عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣]، فإن علم الإنسان في هذا العبد خيراً كاتبه، قالوا: وعلم الخير شيء مجهول، ونحن إنما نعلم الظاهر فقط، وأما ما في القلب فلا نعمله، فيكون الحكم على ذلك: إذا علمت صلاحه يقيناً وجبت مكاتبته، وأما إذا لم يعلم يقيناً فيستحب أن أكاتب هذا العبد الذي ظهر فيه الخير والصلاح.
قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣]، فانظروا الفضل من الله عز وجل، فربنا كريم ويعلِّم العباد الكرم.
فالله عز وجل يأمرك أن تكاتب هذا العبد، وهو لا يملك مالاً؛ لأنه قبل عتقه ملْك لسيده، وكذلك كسبه، فإذا كاتبته على مال معين فاعفه عن جزء منه؛ إعانة له في عتقه، فالله عز وجل يقول لهذا السيد: اتق الله في هذا العبد أن تأخذ منه كل المال، فإن كنت كاتبته على ألف فخفِّض له قليلاً، فإذا أعطاك ثلاثة أرباع المال فاعف عن الربع الأخير، وإذا كان عليه عشرة أقساط فأترك له قسطاً أو قسطين.
وهنا قال سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣]، فالله عز وجل دائماً يذكرك أن المال ليس مالك، وإنما هو مال الله، ويعرف الإنسان ذلك في وقت الوفاة حينما يقول: مالي كله صدقة، فيقال له: المال مال الورثة، ولكن لك أن توصي بالثلث من المال فقط، وبشرط ألا توصي بذلك لوارث، فليس من حقك أن تفعل ذلك، فإن كنت تريد أن تعمل الخير فأوصي إلى غير وارث.
وعندما يكون الإنسان في مرض الموت يستشعر أنه الذي جمع المال طول عمره، فإذا أراد أن يصرفه رُفع أمره إلى القاضي ليحجر عليه، فهذا المال جمعة في حياته كلها لكن ليس من حقه الآن أن يصرفه؛ فقد انتقل للورثة.
فالإنسان خليفة في الأرض، وهو لا يخلف الله تعالى كما يقولون، وإنما الإنسان يخلف غيره، فهذا يموت والآخر يأتي بعده، وهذا يذهب وهذا يأتي، والمال في يد هذا وبعد ذلك أخذ هذا المال آخر، فيخلف بعضهم بعضاً.
فهنا يقول ربنا سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣] يعني: أن السيد الذي كاتب عبده يتنازل عن قسط أو قسطين من المال، وكذلك المسلمون يدفعون من زكاة أموالهم؛ ليساعدوه من اجل أن يعتق ويتحرر.
وبهذه السورة العظيمة الجميلة تحررت رقاب كثيرة حتى تحررت كل الرقاب التي مع المسلمين.
والكتابة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صورة من الصور التي تبين حرص الصحابة على الخير وخاصة أمهات المؤمنين رضوان الله وتعالى عليهن، فهذه عائشة رضي الله عنها جاءتها بريرة، وهي امرأة كانت أمة وكان زوجها عبداً، فـ بريرة يملكها أناس، وزوجها -اسمه مغيث - يملكه أناس آخرون، فتزوج مغيث من بريرة، وبعد ذلك كاتبها أهلها على تسع أواق في تسع سنوات أو في خمس سنوات، فـ بريرة لما كاتبوها دخلت على عائشة رضي الله عنها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين.
وهذه الرواية من روايات الحديث في صحيح البخاري، وفي رواية أخرى وهي الأرجح منها: أنهم كاتبوها على تسع أواق من الفضة خلال سنين معينة وتعتق بعدها، فهي لم تكن أدت من كتابتها شيئاً، فجاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعين بها على ذلك، فأعجبتها وأحبت أن تسارع وتبادر إلى خير، فقالت: أرأيت إن عددتها لهم عدةً واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك فيكون ولاؤك لي؟ يعني: إذا دفعت لك ذلك مرة واحدة، هل سيبيعك أهلك؟ وهي لا تريد أن تشتريها لتجعلها أمة عندها، وإنما لتعتقها رضي الله تبارك عنها.
فذهبت بريرة إلى أهلها فأبى أهلها ذلك، وقالوا: لا إلا أن يكون لنا الولاء.
والولاء في هذا الباب بمعنى: الميراث، والمعنى: أنهم أرادوا ذلك، إذ قد تصبح غنية في المستقبل، فلعلها تموت فإذا لم يكن لها ورثة ورثوها بالولاء.
وبريرة كانت متزوجة من مغيث، والظاهر أنها عندها أولاد منه، فلما عتقت خيرت في زوجها هل تبقى معه أو لا تريد أن تبقى معه، فكان مغيث يجري وراءها في الطريق وهو يبكي يريدها أن تبقى معه،