للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لطف الله بأوليائه]

قال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.

فمن لطف الله عز وجل أنه جعل أولياءه يعرفونه، قال عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢ - ٦٣] فإن كنت تريد أن تكون ولياً فالأمر سهل، وليس صعباً، فالناس يرون أن الأولياء هم الذين ماتوا.

وأن الأولياء هم سيدي فلان، وسيدي فلان، وقد يكون هؤلاء من الأولياء، ولكن الولاية لم يحجرها ربنا على قوم دون غيرهم، بل الله عز وجل يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:٦٢] من هم أولياء الله؟ قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٣] فآمن واتق ربك تكن من أولياء الله سبحانه وتعالى.

فأولياء الله تولوا ربهم ولم يتولوا غيره، ولم يشركوا بالله سبحانه، وتوكلوا على الله، ولم يكلوا أمورهم لغيره سبحانه، وأخذوا بالأسباب ولم يتكلوا، وكانوا رءوساً في دين الله سبحانه وتعالى، وتوجهوا إلى ربهم فاستعانوا به فأعانهم، وآمنوا فاستشعروا بحلاوة الإيمان، ولا يستشعر الإنسان حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فكن كذلك تكن ولياً لله سبحانه وتعالى.

فاستقم على طريق الله سبحانه حتى يعطيك من فضله ومن رحمته ما يوصلك إلى هذا المقام العظيم، مقام التواضع بين يدي الله سبحانه، مقام هضم النفس، وترى نفسك أنك لا شيء، فكلما زادك الله علماً ازددت علماً بجهلك، وكلما زادك الله مكانة ازددت تواضعاً، وكلما أعزك الله سبحانه هضمت أنت نفسك؛ حتى تكون ولياً لله سبحانه وتعالى.

قال الجنيد: لطف بأوليائه حتى عرفوه.

أي: حتى عرفوا الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، علموا أن الله هو القاهر القوي الغالب القادر، علموا أن الله هو الرحمن الرحيم، اللطيف، الخبير، عرفوا الله بأسمائه الحسنى، عرفوا الله من شرعه، عرفوا الله من آياته، رأوا في كل شيء لله عز وجل آية: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فمن لطف الله أن عرفهم، ويسر لهم العلم فتعلموا، فكانوا أولياء الله سبحانه وتعالى.

قال: ولو لطف بأعدائه لما جحدوه.

وهذا محمد بن علي الكتاني يقول: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق.

أي: أن الله سبحانه هو اللطيف بمن لجأ إليه وقد يئس من العباد، وجد كل الناس يخذلونه، ولا أحد يقف بجواره، وجد نفسه مظلوماً، وعادة الناس أن يقفوا مع القوي، فإن كان القوي هو المظلوم وقفوا معه، وإن كان القوي هو الظالم وقفوا معه؛ لأنهم يخافون من الظالم القوي، فيكونون معه، وهذه عادة الناس، فإذا استيئس الإنسان من الناس لجأ إلى رب الناس سبحانه فلطف به سبحانه وأعطاه وكان معه، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠].

فقوله: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ)) أي: يئسوا من إيمان قومهم، وحصل عندهم اليأس من إيمان قومهم، كما قال نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يذكر قومه: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٧] أي: هؤلاء لو تركتهم يا رب فأولادهم سيكونون مثلهم، فأنا قد بلوتهم وخبرتهم، وعشت معهم، كما قال سبحانه حاكياً عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:٥ - ١٢].

دعاهم بالترغيب ليل نهار، ولكن لا فائدة، ولذا قال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:١٣] أي: لا تخافون من ربنا؟ فدعاهم بالترهيب والتخويف، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:١٣ - ١٤]، وذكر لهم آيات الله سبحانه، وفي النهاية: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:٢٦] أي: لا يوجد فائدة يا رب! فقد صار لي ألف سنة أدعو هؤلاء القوم، ولكن لا فائدة {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧] أي: لا فائدة فيهم، كما قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:١١٠] أي: ظن الرسل أن قومهم كذبوا بهم، جاءهم نصر الله.

فظن الرسل أنهم قد كذبوا، أي: حدث لهم ظن أن قومهم كذبوهم، وظن أتباعهم أن رسلهم قد كذبوا، وأنهم لم يفهموا عن ربهم ما أراده سبحانه.

فالأمر ضيق جداً، والرسل يجدون الكفار يكيدون لهم، والأتباع بدوا يتشككون، فلما ضاق الأمر جاء أمر الله سبحانه وتعالى.

وقوله: ((فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) [يوسف:١١٠] أي: فينجي الله بعظمته سبحانه وتعالى المؤمنين.

وقوله: {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:١١٠] هذا من لطف الله بعباده المؤمنين؛ حتى لا يصلوا إلى الشك، فيكفروا بالله سبحانه وتعالى، فإذا بنصر الله يأتي، ونصر الله قريب، فالله لطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق، فإذا توكل على الله سبحانه، ورجع إليه، قبله الله سبحانه، وأقبل الله عز وجل عليه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>