[تفسير قوله تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة فصلت: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:١٥ - ١٨].
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: إن أعرض هؤلاء المشركون فحذرهم وأنذرهم بعذاب من عند الله سبحانه كما حدث للسابقين لهم، فإن أعرضوا فقل: أنذرتكم، خوفتكم، وهددتكم بعذاب مهلك من عند الله سبحانه، وأنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، والصاعقة: هي كل أمر هائل رآه الإنسان أو عاينه حتى يصير من هول هذا الأمر ومن عظيم شأنه إلى هلاك وإلى عطب وإلى ذهاب عقل وإلى غمور فهم أو فقد بعض آلات الجسم، والصاعقة قد تكون ناراً محرقة تنزل من السماء عليهم، أو قد تكون رجفة وهدة شديدة على الإنسان حتى يغشى عليه أو حتى يهلكه الله عز وجل بها، وقد تكون صوتاً عظيماً يفزع منه الإنسان، وقد يكون شيئاً من أمر الله سبحانه وتعالى، فيطلق على هذا كله الصاعقة، والصاعقة: هي الشيء الذي يصعق بسببه الإنسان، فإما أن يغمى عليه وإما أن يهلك ويموت، قال الله سبحانه: {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:١٣].
وقد ذكرنا قصة صاعقة عاد، وكيف أرسل الله عز وجل عليهم الريح العقيم، وكيف جاءتهم الصيحة من السماء مما انتقاه صاحبهم الذي ذهب ليدعو لهم في السنين التي قحطوا فيها وأمحلوا فقيل له: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، فرأى سحابة سوداء مظلمة ظنها ممتلئة ماء فإذا بها العذاب من عند الله سبحانه، فقد أرسل الله عز وجل عليهم من السماء عاصفة شديدة اقتلعتهم من الأرض فحملتهم ثم نزلت بهم على رءوسهم فصاروا كأعجاز نخل خاوية.
وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:١٤] من بين اليد ومن الخلف تطلق على الزمان وعلى المكان، فكأن المعنى في قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [فصلت:١٤] أي: من أمامهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:١٤] أي: من بعدهم فلم يروهم، كذلك من بين اليد، أي: مما من يرونه في المكان، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:١٤]، أي: كأنه في البلاد المحيطة حولهم، إذاً: فقد كان قوم عاد قبل ثمود الذين كانوا في بلاد الشام، وعاد كانوا من خلفهم في بلاد اليمن، فكأنه في المكان وكذلك في الزمان، قال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت:١٤]، والمعنى: أن الله لم يترك عباده مهملين من غير أن يبين لهم، بل أرسل إليهم رسلاً وجعل فيهم الأنبياء بوحي من السماء يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:٢٤]، وأخبرنا عن الرسل فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:٢٥٣]، وقال: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:٧٨]، وقال: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:٣٨]، إذاً: فهي قرون وأمم كثيرة قص الله علينا بعضاً من قصص هؤلاء، وسكت عن أشياء منهم، فذكر لنا ما نعتبر به، فليس القرآن بكتاب تسجيل للحوادث أو للتاريخ ولكنه كتاب تشريع وفيه من الحكم والمواعظ ما ينتفع به أولو الألباب.
ودعوة الرسل جميعهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت:١٤] بمعنى: لا إله إلا الله، أي: لا توجهوا عباداتكم إلا إلى الله الواحد الذي أقررتم بأنه خلقكم ورزقكم سبحانه، فاعبدوه وحده لا شريك له، ولكن هؤلاء الكفرة أعرضوا وقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:١٤]، وقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} دليل على أنهم يعرفون ربهم سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧].
إذاً: فقد أقروا بأن الله هو الخالق، قالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا} [فصلت:١٤] أي: الذي خلقنا، {لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:١٤]، وهذا كلام صحيح، فلو شاء الله ذلك لفعله، ولكن لم يقل: إن الرسل لابد أن يكونوا ملائكة، وإنما اختار الله عز وجل من عباده من ينزل عليه ملك من السماء ليكون نذيراً وبشيراً لقومه، فقالوا: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:١٤]، والنتيجة: {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت:١٤] أي: مكذبون بما تقولون، كافرون بما أرسلتم به.
قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} [فصلت:١٥] أي: استطالوا على الخلق وكذبوا الرسل، قال الله سبحانه: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} [فصلت:١٥]، فليس معهم فيما يصنعون بيان ولا برهان، ولا حجة من الله سبحانه، وإنما هي الاستطالة والعلو في الأرض والإفساد وإرادة الطغيان، فالله سبحانه يخبر أنهم قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:١٥]، والمعنى: أننا نطغى ونعمل الذي نريده، فنحن أشد الناس قوة وأعظمهم أجساماً، ولن يقف أمامنا أحد، وهذا هو البغي والظلم في الأرض، وما من إنسان ولا أقوام يبغون في الأرض إلا وأخذهم الله سبحانه، وجعلهم عبرة وعظة لمن يعتبر ويتعظ.
وكم من عال في الأمم السابقة طغى وتجبر فإذا بالله يهلكهم ويبيدهم، ومنهم من استضعفوا، كما قال سبحانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:٥ - ٦].
فالله عز وجل جعل الأيام دولاً بين الناس، كما قال: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠]، فيرتفع الإنسان إلى ما يشاء الله ثم ينخفض حيث قدر له الله عز وجل ذلك، قال هنا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ} [فصلت:١٥] أي: قد عرفوا أن الله هو الخالق سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقهم وأعطاهم قوة، أفليس بقادر على أن يخلق أقوى منهم حتى يبيدهم على أيديهم؟ أليس قادراً أن يخلق لهم ما يهلكهم به من عاصفة أو رياح شديدة أو مطر سوء من السماء أو عذاباً مهيناً من عنده سبحانه؟! قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:١٥]، إذاً: فلم يجحدوا ربوبية الله سبحانه، بل جحدوا آياته التي جعلها الله مع رسله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:١٥]، فلما تطاولوا في أمرهم وبغوا كان لابد أن تأتيهم سنة الله في خلقه.