تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم)
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:٢٤]، فجاء العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، والإنسان الذي يستكبر عن عبادة الله، وينتظر عذابه يأخذه، فإذا أخذه لا يفلته.
وانظر عندما جاء العذاب من الله سبحانه أين ابن نوح الذي اغتر أن أباه نبي؟ واغتر بأنه سيصعد إلى أعلى جبل كي يعصمه من الماء، فقال الله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:٤٣]، فجاء العذاب من السماء، ومن الأرض، فالأرض أخرجت ماءها، والسماء أنزلت ماءها، وأغرق الله من على الأرض كيف شاء وحين شاء سبحانه وتعالى.
وعاد هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:٧ - ٨]، فلم يكن هناك أناس بمثل هذه الأجسام، ومثل هذه القوة، لا من قبلهم ولا من بعدهم، ولن يأتي مثلهم، فالله قدر أن يكون هؤلاء عظة لغيرهم، فجاءهم العذاب فدمر هذه القصور العالية، وتتعجب من قصور هؤلاء عندما يجدونها في الحفريات في الرمال تحت الأرض، فيجدون جبالاً لهؤلاء القوم، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، جبال صم ينحتون فيها البيوت، وهذا مستحيل إن فكر أحدنا في ذلك، فكيف وهم قد بنوا قصوراً داخل هذه الجبال؟! فينحتون قرى كاملة في الجبال، أبوابها من الصخر، مدخلها كذلك من الصخر، وأشياء عجيبة جداً، فعمروا سنين طويلة نحتوا فيها الجبال، وبنوا فيها القصور الشاهقة، وظنوا أن هذه الجبال تمنعهم من عذاب الله تعالى، وظنوا أن هذه ستعصمهم من الله عز وجل، فإذا بالله عز وجل يأتيهم بالعذاب من مأمنهم، ومن حيث يظنون الأمن والأمان، ومن حيث يظنون البعد عن البلاء، ومن حيث يظنون مصدر رخاءهم، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام، وأنذرهم غضب الله سبحانه وتعالى، فلم يخافوا وإنما طلبوا العذاب: ((ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، فمنع الله عنهم الماء، حتى هلكت الزروع والمواشي، وأجدبت الأرض، فماذا عملوا؟ بعثوا أحدهم إلى مكة -المكان هذا كان معروفاً، وكانت الكعبة غير موجودة، فهذا قبل إبراهيم- ليدعو الله لهم هناك، فأرسلوا واردهم ووافدهم، وهنا قصة يسوقها الإمام الترمذي وأحمد بإسناد حسن، وهي: أن رجلاً اسمه الحارث بن يزيد البكري -صحابي جليل- خرج إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ليكلمه في شيء، وفي الطريق قابلته امرأة عجوز، فطلبت منه أن يحملها معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحملها إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولما وصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يستعدون للخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل، والقصة طويلة، وإنما الغرض منها: أن الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع قومه أرضاً في المكان الذي هم فيه، فالعجوز التي معه كانت من أهل هذه الأرض، فإذا بها تستفز وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعطيه الماء الكثير؟ وكيف تعطيه الأرض الواسعة؟ ونحن إلى أين سنذهب؟ مع أنها كانت مخالفة لقومها، فهي على الإسلام وقومها كانوا كفاراً، ولكن مع ذلك أشفقت المرأة على قومها، فقالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟ فقال الرجل متعجباً: حملتك من الطريق الفلاني وأتيت بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بك تخاصميني عنده! إنما مثلي كما قال الأول: معزاء حملت حتفها.
وهذه قصة معروفة عند العرب وهي: أن معزة كانت مع صاحبها، وبينما هي تحفر الأرض برجلها وجدت سكينة، فأخذها صاحبها وذبحها بها وأكلها.
ثم قال: (حملت هذه ولا أشعر أنها كانت خصماً لي، أعوذ بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن أكون كوافد عاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هيه! وما وافد عاد؟) وهذا من لطف وأدب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يعرف قصة عاد ووافدهم، ولذا عندما يذكر لك أحدهم أمراً من الأمور وأنت تعرفه لا مانع من أن تسمعه منه مرة أخرى، وليس لازماً أن تحرجه وتقول له: أنا أعرف هذه القصة، لا، وإنما اسمع منه ما يقول.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما وافد عاد؟ فقال الرجل: قلت: إن عاداً قحطوا) أي: منع عنهم المطر ثلاث سنوات، قال: (فبعثوا وافداً لهم يقال له: قيل، فمر بـ معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان) وعاد كانوا يسكنون اليمن، فأرسلوا أحدهم إلى مكة ليدعو لهم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذا المكان مكان إجابة، فالرجل عندما مر في الطريق جاء على قوم عندهم طعام وشراب، ولم يكونوا يعانون مما يعاني منه الذين في الجنوب، فأقام عند معاوية بن بكر يسقيه الخمر ويطعمه وتغنيه جاريتان، فنسى وهو في اللهو ما جاء من أجله، ثم ذكره القوم بمقصد مجيئه، فخرج إلى جبال تهامة فنادى ودعا هنالك فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجيء إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت مسقيه)، أي: أن عاداً تعودوا منك أن تسقيهم، فهم كانوا يعرفون أن الله هو الخالق سبحانه، وأن الله هو الرزاق سبحانه، ومع ذلك يعبدون أصناماً من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا به يدعو ربه ويبقى هو في عبادته لغير الله، (فاستجاب الله دعاءه، فمرت به سحابات سود، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، وظن أن الله استجاب له دعاءه، فرجع إلى قومه يبشرهم بذلك، فنودي من السحابة: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً)، رماداً بمعنى: هباب؛ لأن أي شيء إذا احترق صار رماداً.
قال: (خذها رماداً رمدداً لا تبقي من عاد أحداً، قال: بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا)، أي: أن الله أرسل عليهم الريح العقيم التي تدمر كل شيء، فأسقطت السحابة عليهم نيراناً من السماء، وأرسل الله عز وجل عليهم الريح العقيم، واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فإذا جبالهم وحصونهم لا تحميهم، وأغرقها الله بالرمال، وكانت الريح ترفع أحدهم إلى علو ثم تشدخه بالأرض: {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:٧ - ٨] أي: هل ترى أحداً منهم موجود؟ فقال الله سبحانه وتعالى هنا في هذه الآيات: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ)) أي: رأوا سحابات آتية تعرض في السماء، ((قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) أي: قد استجبنا فلسنا محتاجين للرسول، فكان الجواب من الله: ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)) أي: هذا هلاككم، فقد كنتم تقولون: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، وجهلتم قدرة الله سبحانه، جهلتم بطش الله وانتقامه، ((بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ))، ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ))، فدمرت البلاد، ودمرت العباد، وغطت قصورهم وحصونهم وجبالهم بهذه الرمال ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك، والآن معروف مكان الرمال، فهي في الربع الخالي، وهو مكان ليس فيه أحد، وفيه يبحثون عن حفريات وآثار للسابقين، وقد صوروا ما كان فيها من البيوت التي بنوها في الجبال، وأما أن أحداً يسكن في هذه الأماكن فلا، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وهذه قراءة عاصم وحمزة وخلف ويعقوب: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:٢٥]، وقراءة باقي القراء، ((فَأَصْبَحُوا لا تَرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ))، أي: أصبحتَ لا ترى، فلو ذهبت إلى هناك فلا تجد أحداً، وليس هناك أماكن عمران، فلا ترى إلا مساكن هؤلاء القوم.
قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي: كل من يجرم فهذا جزاؤه، فنفعل به كما فعلنا بالسابقين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.