اختلف العلماء كما يقول القرطبي رحمه الله في التحليل، وكان يقول باستحبابه، أي: عندما يأتي إليك إنسان ويقول لك: حللني أي: سامحني فيما فعلت فيك، فهل يستحب لك أن تحلله؟ كان سعيد بن المسيب لا يحلل أحداً من عرض ولا مال.
فإذا كان الإنسان من النوع الذي اعتاد السرقة، فكلما سرق ذهب إلى الشخص المسروق وطلب منه السماح، فهذا لا يستحق المسامحة، من باب الردع له؛ لأنه إذا وجد أن لا أحد يريد أن يعفو عنه، سيخاف من الله عز وجل.
لكن ليس كل الناس بمثل هذه الصورة، فهناك أشخاص يتوبون، فما المانع أن يحلل الإنسان أمثالهم؟ لذلك كان سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين يحللان من العرض والمال، فإذا أخذ إنسان منهم مالاً وذهب يتسامح منهم، كانا يحللانه في ذلك.
أما الإمام مالك فهو وسط بين القولين، فكان يرى أنه يحلل من المال دون العرض، فإذا أخذ إنسان منك مالاً، وجاء يقول لك: أنا أخذت منك هذا المال فسامحني، ورد لك المال فقال: لا بأس بأن تحلله، أما العرض فقد سب وانتهى الأمر، ففي أي شيء يحلله الإنسان؟ ووجهة نظره: أنه لو اعتاد البذاءة، وكل من سبه سامحه سيتمادى، فمثل هذا لا يستحق؛ لأنه سيعتاد على انتهاك أعراض الناس، والكلام البذيء الفاجر الفاحش.
والأمر واسع في ذلك، والأولى في الجميع أن يعفو الإنسان ويصفح كما أمر الله سبحانه وتعالى، فصارت المسألة ثلاثة أقوال: الأول: لا يحلله بحال وهو قول سعيد والثاني: يحلله وهو قول القرطبي، والثالث إن كان مالاً حلله، وإن كان عرضاً لم يحلله وهو قول الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن العربي: ووجهة النظر أن الرجل إذا غلب على أداء حقه، فمن الرفق به أن يتحلله، أي: إنه قد يكون أخذ منك مالاً في يوم من الأيام ثم تاب إلى الله وليس معه مال، فجاء يقول لك: سامحني لقد سرقت منك عشرة جنيهات في يوم من الأيام، أو اختلست منك مبلغاً، والذي جعله يفعل هذا أنه خاف من الله، ورجع عن هذا الذنب، فاعف عنه، ولا تتركه معذباً في الذي صنعه.
أما الإنسان الذي تطاول في العرض، فأصبح لسانه بذياً أي: متعوداً على هذا، فمثله لا يعفى عنه، لكن إذا تاب إلى الله، وأصلح فيما بينه وبين الله، وتغير حاله، وتغير أدبه، فلا مانع من أن يعفى عنه ويستر عليه.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي اليسر حديثاً وفيه: أنه استدان منه إنسان مالاً، فذهب ليطالب بالمال، وقد كاتب عليه ورقة؛ لأن الله عز وجل يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}[البقرة:٢٨٢]، فخرج إليه ابنه فقال: أين أبوك؟ قال: إن أبي حين رآك ذهب فاختبأ في غرفة أمي، فنادى أبو اليسر عليه وقال: اخرج إلي فقد علمت أين أنت، فخرج إليه الرجل، فقال له: ما حملك على أن اختبأت مني؟ أعطني المال الذي سلفتك، فقال الرجل: خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت معسراً، يعني: أنت صحابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ما الذي يلزمني أن أخرج وأكذب عليك، أو أعطيك وعداً تدعو علي، فأنت صحابي فاضل، لا أستطيع أن أكذب عليك، فقال أبو اليسر لهذا الرجل: آلله! يعني: أسألك بالله هل الذي تقوله صحيح؟ قال: والله! أنا صادق في الذي أقوله، قال: فأتى بالصحيفة التي كتب فيها الدين ثم قطعها، ومحا ما فيها، ثم قال: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حل.