للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً)

قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:٣٣]، فإذا كان الإنسان لا يوجد معه مهر، ولا يستطيع أن يقوت من يعول ولا أن يقيم بيتاً، فكيف سيتزوج؟! فيلزمه الاستعفاف إذاً.

قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ} [النور:٣٣] السين في يستعفف استدعاء واستفعال، يعني: ليطلب العفة، ويستدعي العفة من نفسه.

والعفة: هي الكف عما حرم الله سبحانه وتعالى، وعما لا يحل للإنسان أن يفعله.

فالإنسان العفيف هو الذي يصبر عن محارم الله سبحانه، ويضبط نفسه ويكف نفسه عما حرم الله، وعما يجب أن يتركه.

وليستعفف هؤلاء الذي لا يجدون نكاحاً، يعني: لا يجدون طول النكاح، فلا يقدر على النكاح بسبب المال.

وإلى متى يستعففون؟ قال الله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:٣٣]، وكأنه وعد من الله سبحانه وتعالى إن تستعفف يغنك الله عز وجل.

وليستعفف هؤلاء إلى أن يرى الله عز وجل منهم عفة حقيقة وصبراً جميلاً، فيغنيهم الله عز وجل من فضله.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، فالصوم يمنع الإنسان من معصية الله عز وجل؛ لأنه يقلل الدماء في عروقه، فيصبره على الشهوة، ويصبره على أمر النكاح، ولا يستعجل الإنسان فيقول: أنا صابر فلماذا لم يغنني الله؟ وأنا أسال الله فلماذا الله لم يعطني؟ فالإنسان المتعجل جدير بعدم الإجابة، لذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فهذا إنسان عجول يدعو قليلاً ثم ينقطع، فالإنسان الذي يدعو يصبر لأمر الله سبحانه، فالله لم يقل: أنا سأستجيب لك اليوم، ولا غداً.

وانظر حين وعد الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بفتح مكة فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح:٢٧]، فالصحابة يريدون وعد الله عز وجل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا قبل ذلك أن الله يفتح لهم، فلما ذهبوا عام الحديبية ولم يستطيعوا أن يدخلوا مكة ورجعوا قالوا: (ألم تكن تحدثنا أنا نأتي مكة)، فكأنهم تعجلوا ذلك، قال: (بلى، وإنا إن شاء الله آتوها، هل حدثتكم أنا نأتي هذا العام؟!)، هل قلت لكم إننا سنأتي هذه السنة؟ فلم يقل ذلك ولكن ذكر لهم رؤيا رآها أنهم سيفتحون مكة، وسيدخلونها، وأما تحقيق ذلك فمرجعه إلى الله تعالى، ولكن سيكون وعد الله الذي وعد به نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

فرجعوا من الحديبية بعدما كانوا مؤملين أنهم يدخلون مكة، ولم يدخلوا، ولما أمرهم أن يحلقوا كأنهم ما زالوا ينتظرون دخول مكة، فلم يحلقوا، وأصبح كل واحد يتلكأ ويتأخر حتى حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره، ثم بدأ يحلق بعضهم لبعض، وكاد بعضهم يقتل بعضاً من شدة غمهم؛ لأنهم لم يدخلوا مكة هذا العام.

فلما كانوا راجعين أنزل الله عز وجل سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:١]، فتح ماذا وقد رجعنا من دون فتح ولا شيء؟ فذهب عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -وكان من أكثر الناس كلاماً في هذا اليوم- فقال: (أو فتح هو؟ قال: نعم) يعني: هل هذا الذي عملناه فتح وقد رجعنا بشروط أقرب للهزيمه منها للعدل، ورجعنا ولم ندخل ولم نعتمر؟ فقال: نعم، فتح، فصدَّق عمر أن الأمر فتح، وكان أعظم الفتوح.

وفي سنين الإسلام الطويلة قبل ذلك كان العدد الذي يدخل في الإسلام قليلاً، إلا أن ما بين الحديبية إلى فتح مكة دخل في دين الله الأفواج الكثيرة، ثم فتحت مكة بعد عامين فكان الفتح العظيم من الله، وكانت الإجابة بوعد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه.

فهنا لم يقل: سنفتح لكم مكة اليوم، أو غداً أو بعد كذا، والله أعلم من يستحق أن يستجيب له حالاً، ومن يستحق التأجيل، ومن لا يستحق الاستجابة في الدنيا بل يدخر له ذلك ليوم القيامة.

لذلك على المؤمن أن يصبر لأمر الله وينتظر الفرج ولو بعد حين، وتأمل صبر يعقوب عليه الصلاة والسلام على ذهاب ابنه، فلما قال الله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:٤]، وهذه رؤيا نبي فهي حق، فلذلك الأب فهم الرؤيا، وأنه لابد أن الأب والأولاد كلهم يسجدون ليوسف عليه الصلاة والسلام، فهذه رؤيا حق، فقال: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:٥]، ثم أخذوا أخاهم وألقوه في الجب، وجاءوا لأبيهم وقالوا: أكله الذئب، فلم يصدقهم في ذلك، ولم يقل: يا رب ائتني به الآن، فأنا لا أصدقهم فيما يقولون، أو دلني على مكانه، وإنما صبر سنين طويلة إلى أن أصبح يوسف أميراً على مصر، وحاكماً عليها، وهذه سنين طويلة جداً إلى أن رجع يوسف لأبيه أو جاء الأب إلى ابنه.

فعلم أن الله لا يخلف الميعاد، وأن هذه رؤيا حق، فلم يسأل ربه أو يناقشه في هذه الرؤيا، وأولاده يكذبون عليه يوماً بعد يوم، فقالوا: أكله الذئب، ثم قالوا: {تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ} [يوسف:٨٥] وقد قالوا له ذلك قبل أن يجد يوسف عليه الصلاة والسلام.

وقد كان شديد الصبر والكظم لغيضه، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤]، فذهبت عيناه من الحزن، لكنه لم يتعجل أمر الله إلى أن جاء أمر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:١٠٠]، وهذه الرؤيا لها فوق الخمسين سنة قبل ذلك، ثم كان تأويل هذه الرؤيا -وهي رؤيا صدق- وتحققت لكن لم يُحدد زمن لوقوعها.

كذلك الإنسان المؤمن الذي يتوكل على الله ويثق بوعده، وأن الله يريد به الخير واليسر، وأنه إن أخر شيئاً فلخير أخره، فماذا سيخسر الله إن استجاب الآن أو غداً، ولكن له حكمة سبحانه وتعالى، فثق بالله سبحانه، وانتظر فضله ورحمته الواسعة.

نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>