[تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)]
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:٤١ - ٤٤].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تسبيح الكائنات التي خلقها، فكل مخلوق خلقه الله سبحانه يسبح بحمده، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤]، ومعنى يسبح بحمده أي ينزهه ويحمده.
فقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:٤١] أي: أن السموات والأرض ومن فيهما من جميع المخلوقات تسبح ربها، وأخبر هنا (بمن)، التي يخبر بها عن العاقل، فمن يسبح الله وينزهه ويحمده فهو عاقل وإن كان جماداً أو نباتاً أو حيواناً، فطالما أنه عرف ربه، وحمد ربه وسبحه فهو عاقل، فاستحق أن يخاطب بذلك.
فكل من في السموات والأرض يسبحون ويطيعون الله سبحانه وتعالى، ويخضعون له ويخشونه، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:١٨].
أي: ما من شيء إلا يسبح بحمد الله سبحانه، ويسجد لله طائعاً أو مكرهاً، فالمؤمن يسجد لله طائعاً له وينفذ أمره، لكونه عرف الله سبحانه وعبده وابتغى رضاه سبحانه وتعالى، والكافر يسجد لله مكرهاً، ويطيعه، وينفذ فيه أمر الله الكوني القدري.
فكل شيء يسجد لرب العالمين سبحانه طائعاً أو مكرهاً، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:٤١] أي: ما بين السموات والأرض، وهو هذا الجو وما فيه من مخلوقات من طيور تطير وغيرها، فهذه الطيور تسبح بحمد ربها سبحانه، فتصطف في السماء باسطة أجنحتها مسبحة ربها سبحانه تبارك وتعالى، حامدة له على ما أعطاها وما قدره لها.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطانا).
ففهمت الطيور أن الله ربها وخالقها ورازقها، وأنه لا يتركها، فإذا بها تسبح حامدة ربها، في حال كونها صافات وباسطات أجنحتها في السماء.
{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:٤١] أي: أن الله عز وجل قد علم صلاة كل مخلوق وتسبيحه، والإنسان لا يفهم لغة الطيور والحشرات والحيوان، وقد جعل الله عز وجل لها ما تتخاطب به وتسبحه به.
فالمؤمن يتفكر في خلق الله الخلاق العليم العظيم سبحانه، الذي هو أكبر من كل شيء، ويعلم كل شيء، فهو يعلم لغات الطيور وغيرها في اللغات.
فالعربي يتكلم بلغة يعرفها الله، وكذلك الأعجمي والطير والبهائم، فكل هذه المخلوقات قد علم الله عز وجل صلاتها ودعاءها وتسبيحها.
وعلماء الحيوان يبحثون في ذلك، ويقولون: هناك لغة للحيوان يتخاطب بها، وكذلك للحشرات وللنمل وللنحل فكل منها يخبر بعضها بعضاً عن أشياء، وهي تصلي لرب العالمين بهيئة يعلمها الله، وتسأل الله فيعطيها، وتتوكل على الله فيرزقها.
ومعنى تسبيح الله: تقديسه وسؤاله ودعاؤه وتنزيهه عن كل معصية.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:٤١] أي: والله عليم بما يفعل الخلق جميعهم: من إنسان أو حيوان أو جان أو ملك أو جماد، فمن يفعل شيئاً يعمله الله سبحانه وتعالى، ولا يتحرك شيء إلا بمقدار، ولا ينزل شيء إلا بقضاء الواحد القهار، سبحانه وتعالى.
فالله قد أحاط بكل شيء علماً، فكل شيء دق أو جل، صغر أو كبر قد أحاط الله به علماً، فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.