للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دعوة سليمان لبلقيس وقومها إلى التوحيد]

الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٢٩ - ٣١].

يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قصة بلقيس لما جاءها الهدهد برسالة سليمان عليه الصلاة والسلام، وكيف أنه أرسل الهدهد بهذه الرسالة إليها.

وقد ابتدأ هذه الرسالة بقوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:٣٠].

وهذا الخطاب الذي أرسله سليمان عليه السلام لـ بلقيس كان فيه دعوتها إلى توحيد رب العالمين سبحانه، وأن تأتي مذعنة خاضعة لرسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليها: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٣١]، أي: مستسلمين للرب سبحانه وتعالى، وألا تعبدوا غيره من المعبودات الباطلة.

وقدمنا: أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان قد افتقد الهدهد مرة، فلما سأل عن الهدهد ولم يجده، توعده وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢١] قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:٢٢]، يعني: وظهر الهدهد وجاء إلى سليمان عليه السلام وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:٢٢] يعني: علمت علماً لا تعلمه أنت، وأحطت بخبر في بلاد قريبة منك وأنت لا تعلم عنها شيئاً، وكان سليمان بالشام وهؤلاء باليمن.

فقال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:٢٢]، أي: نبأ ليس كذباً، وليس عن طريق أحد غيري، بل أنا الذي رأيت بنفسي، وليس المخبر كالمعاين، فالذي يعاين الخبر ويراه يكون منه على يقين، أما الذي يخبر عنه فليس على مثل يقين المشاهد.

والنبأ معناه: الخبر الذي غاب عن الإنسان، ومنه النبي والنبيء، يعني: الذي ينبأ بأخبار من الغيب لم يكن يعرفها، ولا يعرفها أحد من البشر سواه، فيخبره الله عز وجل بالنبوءة بأخبار الغيب.

والخبر هو: أني وجدت امرأة ملكة على بلاد اليمن، وهي ملكة سبأ، وهذه المرأة لها عرش عظيم، غير أنها تعبد هي وقومها الشمس من دون الله.

وهذه المرأة كانت غنية جداً؛ ولذلك الهدهد يقول لسليمان عليه السلام: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:٢٣]، يعني: مما يؤتاه البشر، فقد أوتيت أشياء كثيرة مما يؤتاه البشر، وأوتيت غنى عظيماً، ولها عرش عظيم يدل على قدرة من معها على البناء وعلى الصنع وعلى التجميل، وهذا العرش قد انبهر منه الهدهد ووصفه بأنه عرش عظيم.

فلما قال ذلك لسليمان، وأنهم يعبدون غير الله سبحانه قال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:٢٤]، قال الله عز وجل: أو قال سليمان تعقيباً على كلام الهدهد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:٢٥]، أو قالها الهدهد.

وفي هذه قراءتان: الأولى: (ألَا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء).

بتخفيف اللام في (ألا) والثانية: (ألَّا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء).

بالتشديد.

والمعنى: التحضيض والحسم، هلا سجدوا لله بدلاً من هذه الأشياء الباطلة التي يعبدونها من دون الله سبحانه؟ فلما سمع سليمان عليه الصلاة والسلام من الهدهد ذلك: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:٢٧] يعني: هل هو يتعلل لأنه غاب وسليمان هدده بأن يذبحه أو يعذبه عذاباً عظيماً، أم هو صادق في كلامه؟ {قَالَ سَنَنظُرُ} [النمل:٢٧]، يعني: نتحرى، وكأن القرآن هنا يشير إلينا أن الإنسان لا يندفع، وليأتس بهؤلاء الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فسليمان عليه السلام تهدد وتوعد الهدهد وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢١].

فإذاً: يجب على الإنسان إذا غضب من شيء أن ينتظر حتى يهدأ وحتى ينظر في الذي عند هذا الآخر من العذر، فإذا أخبره بعذره قبل هذا العذر.

ولذلك قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢١] يعني: بعذر بين أو بحجة قاطعة، فجاء الهدهد بهذا الخبر فقال سليمان: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:٢٧].

ثم قال له: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:٢٨]، فأخذ الهدهد كتاب سليمان، وذهب إليهم، وألقاه إلى هذه الملكة.

فلما رأت الكتاب، وقد علمت أنه لم يأتها به أحد من البشر، أدركت أن هذا الخطاب أتى من فوق، ثم فتحت الخطاب، فقالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:٣٠]، فهذا الخطاب الكريم من سليمان.

ثم قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كريم} [النمل:٢٩]، وكتاب معناه: مكتوب، يعني: رسالة مكتوبة، ومكتوب فيه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:٣٠]، فكأنه قدم نفسه، بحيث لو كانت غبية أو متطاولة فشتمت أو سبت كان شتمها وسبها لأول من ذكر، ولا تسب الله تعالى، فلذلك بدأ باسمه هو فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٣٠ - ٣١].

فذكر كلمات قليلة يسيره فيها البدء بالمرسل، ثم ذكر الله الخالق سبحانه ببعض صفاته العظيمة، وفيه التلطف مع هذه المرأة لعلها تستجيب وتدخل في هذا الدين.

ولذلك لما وجدت هذه الصيغة قالت: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:٢٩] يعني: لم يبدأ بالشتم والتهديد، ولكن بدأ ببسم الله الرحمن الرحيم.

وقوله: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:٣٠]، دال على أن الله هو المعبود سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: أنا أكتب كتابي هذا مستعيناً بالله وحده سبحانه الذي هو الإله المألوه الذي يستحق العبادة وحده، كذلك هو الرحمن الذي يرحم عباده في الدنيا وفي الآخرة، وهو الرحيم سبحانه.

فالرحمن صاحب الرحمة التي تعم الخلق جميعهم، والرحيم صاحب الرحمة العظيمة الخاصة بالمؤمنين.

قال سليمان: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل:٣١]، وهذا هو مضمون الخطاب: لا تعلوا علي، ولا تستكبروا، ثم قال: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:٣١]، أي: مستسلمين لله رب العالمين، طائعين عابدين له لا تعبدون غيره سبحانه.

فلما قرأت على قومها الكتاب، أو أخبرتهم بمضمونه، أظهرت هنا حكمتها، وأنها ليست مندفعة، فلم تندفع في التهديد والوعيد، مع أنه ذكر عنها أنها تملك جيشاً عظيماً جداً، ويكفي في قوتهم ما صرح الله عز وجل به هنا من كلام جنودها وقادتهم لما قالوا: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:٣٣]، فأثبت الله سبحانه وتعالى ذلك، ولم يكذب ما قالوه، فهم أصحاب قوة عظيمة في أبدانهم، وأصحاب قوة عند القتال.

<<  <  ج:
ص:  >  >>