للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من هم أهل الشورى]

يقول ابن الجوزي رحمه الله: إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يؤت به وحي، وعمهم بالذكر والمقصود أرباب العلم وأصحاب الرأي والحكمة.

فقوله سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، هذه صيغة عموم، والمقصد من هذا العموم: الخصوص، وليس العموم، والمعنى: شاور بعضهم وليس جميعهم، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، ولكن اجمع أهل المشورة واستشرهم، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يجمع إليه القراء وحفاظ القرآن فيشاورهم، وإذا أشار عليه أحد غيرهم بشيء قبله إذا كان فيه صواب، فقد أشارت عليه امرأة بشيء فقبل منها.

فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله عز وجل بالشورى قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، ففي يوم بدر قال: (أشيروا علي أيها الناس)، فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، وتكلم عمر فأعرض عنه، وهو يقول: (أشيروا علي أيها الناس) وهو يريد مشاورة الأنصار، فهم أهل المدينة وأصحاب البلد الذي فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، وسيأتي هذا الخبر في قصة طويلة له صلى الله عليه وسلم.

إن الإنسان حين يستشير إنساناً فقد ائتمنه على هذا الرأي الذي يقوله، وكذلك إذا استشارك إنسان فقد ائتمنك، وطلب منك الأمانة، فاحذر أن تشيره بما يكون فيه ضرر عليه، فهذه أمانة ولابد أن تؤدي، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:٥٨]، فإذا أعطاك إنسان سره، واستشارك وطلب منك الرد فقد أودعك أمانة، فرد إليه أمانته برأيك الصحيح.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن)، معناه: أنه مسئول يوم القيامة عند الله عز وجل عن هذه الأمانة التي لزمه أن يردها، وأن يجيب على من استشاره.

قال الحسن رضي الله عنه: إن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى رأيهم، ولكن أراد أن يعرفهم ما في المشاورة من البركة، ففي آراء الجماعة بركة، فأراد الله عز وجل أن يعرف المسلمين ذلك.

وقال عمر رضي عنه: شاور في أمرك من يخاف الله، أي: لا تذهب إلى من يعاديك، أو يتمنى لك الشر لتستشيره، ولكن شاور من يخاف الله سبحانه وتعالى، ويعطيك الرأي السديد.

قيل لرجل من قبيلة عبس: ما أكثر صوابكم! أي: الصواب عندكم كثير، فقال الرجل: نحن ألف -أي: عدد القبيلة ألف رجل- وفينا حازم واحد نشاوره في أمرنا -فإذا حدث للقبيلة أمر شاوروه وأخذوا بمشورته- قال: فصرنا ألف حازم.

فعلى المرء ألا يهضم كلام العلماء ولا يستهتر به ولا يحتقره، وليأخذ بكلام العقلاء والحكماء، وليعمل به، فإن كثيراً من الناس يستشير عالماً في مسألة لا ليعمل أو يتفقه، فإن وافق الحكم هواه أخذ به، وإلا سأل آخر، فيطلب ما يوافق هواه، وهذا استهتار بدين الله عز وجل.

كان علي رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام، أي: مشهده في القتال، فالغلام أقوى في الحرب، ولكن رأي الشيخ خير من مشهد الغلام؛ لأن الشيخ له خبرة في الحياة، وخبرة في الحرب، وقد خاض المعارك قبل ذلك وعرفها، فالأخذ برأي الشيخ أولى من الأخذ برأي الغلام، ومع ذلك فالغلام يؤخذ برأيه، ولذلك لما أراد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يدخل الشام وفيها الطاعون استشار جمعاً من المهاجرين، فاختلفوا عليه: فمنهم من يقول: ادخل، أتفر من قضاء الله سبحانه وتعالى؟ ومنهم من يقول: ارجع ولا تدخل، ثم استشار مشايخ قريش الكبار، فقال: ما رأيكم؟ فلم يختلف عليه أحد منهم، وقالوا: ارجع ولا تذهب، فإنك سوف تهلك نفسك وتهلك الجيش، فهذه آراء الشيوخ، فاقتنع بكلامهم ورجع.

وكان من بركة هذه المشورة أن عبد الرحمن بن عوف كان غائباً، فلما رجع قال لـ عمر بن الخطاب: لقد أصبت فيما فعلت، وعندي في ذلك خبر، فحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها)، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ورجع، وهذا هو رأي المشيخة، فلقد كانت آراؤهم أصوب؛ لما لهم من خبرة في الحياة، فإذا لم يكن عندهم سنة في أمر من الأمور فكروا وأعملوا الآراء، وهم أهل لأن يوفقوا، بسبب كبر سنهم، وكثرة عبادتهم، وخبرتهم في إدارة الأمور.

يقول عبد الملك بن مروان: لأن أخطئ وقد استشرت أحب إلي من أن أصيب من غير مشورة، بمعنى: أنه ليس أحب إليه أن يصيب بدون أن يستشير، بل الأحب أنه لو أخطأ بعد أن استشار، وهذا كلام حكيم من رجل عالم، فلقد كان هذا الرجل يقرب العلماء ويحبهم، فكان إذا أخطأ وقد استشار لم يندم، وإذا أصاب من غير مشورة يدخله العجب، وهكذا فالإنسان عندما يصيب مرة بدون مشورة يفرح ويعجب بنفسه، لكنه إن أصاب هذه المرة فقد يخطئ مرة أخرى ويضيع نفسه ومن معه بعد ذلك، هذا ما قاله العلماء.

ومن كلامهم أيضاً: من طلب الرخصة من الإخوان عند المشورة، ومن الفقهاء عند الشبهة، ومن الأطباء عند المرض، أخطأ الرأي وحمل الوزر وازداد مرضاً، وهذه من حكم العلماء، ومعنى (من طلب الرخصة من الإخوان) أي: أنه يشاور ويريد ممن يشاوره أن يسهل عليه ولا يعطيه الحقيقة؛ فينبغي على المرء ألا يطلب الرخصة عند المشورة، ولذلك قالوا: صديقك من صدقك لا من صدقك، وأخوك من وعظك لا من عذرك، وقالوا: أخوك من عذلك لا من عذرك، أي: أخوك حقيقة هو الذي يعظك ويعذلك، ويذكرك بأخطائك، أما الذي يعذرك دائماً، ولا يقول لك إذا أخطأت: أنت مخطئ، فقد غرك، وسوف تظل على الخطأ بدون أن يمنعك منه أحد، وإذا أتى إليك من ينصحك ويذكرك بأخطائك فقد تظن أنه يكرهك.

وقولهم: صديقك من صدقك، بمعنى أن الصديق الحقيقي هو الذي يصدقك، يقول: ما يقول ولا يكذب عليك، ويقول لك الصدق، فإذا أصبت صوبك، وإذا أخطأت خطأك، فهو صادق معك، وليس صديقك من صدقك، فكلما تقول شيئاً يقول: أنت صادق فيه، مع أن كل الناس يقولون: إنك مخطئ، فمن صفات أهل الجاهلية أن تصوب المخطئ من أجل قرابة بينك وبينه، وهذه هي العصبية.

وقولهم: ومن الفقهاء عند الشبهة، أي: أن يسأل الفقيه في أمر مشتبه فيه ويريد منه رخصة في هذا الأمر.

وقولهم: ومن الأطباء عند المرض، أي: أن يمرض ويذهب إلى الأطباء فيمنعوه من بعض الأشياء، فيطلب منهم ألا يمنعوه من ذلك وأن يسهلوا عليه.

فإذا صنع الإنسان ذلك فقد أخطأ الرأي، وحمل الوزر، وازداد مرضاًَ، طالما أنه يعمل بالشبهة، ويطلب من الفقيه أن يفتيه بجوازها، فيأثم الفقيه ويأثم هو أيضاً، ويحمل الوزر، ويزداد مرضاً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>