تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:٦٧ - ٧٥].
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:٦٧].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تكبر الكفار وإنكارهم أن الله يعيد الخلق كما بدأه أول مرة، فقالوا مستنكرين للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:٦٧]، أي: أئنا لمبعوثون، فكانوا يستنكرون ذلك وقد أعماهم الله عز وجل عن التفكر في أن الله هو الذي خلقهم أول مرة، وقد أقروا على ذلك بأنفسهم، وشهدوا أنهم مخلوقون، وأن الله هو الذي خِلقهم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، فالله عز وجل قد خلقهم، وأرسل رسولاً إليهم ينبئهم أنهم مبعوثون ومسئولون ومحاسبون، وأن مصيرهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، فأنكروا حتى لا يكلفهم ربهم سبحانه، وحتى لا يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأفعال لا يريدون فعلها، فلذلك استنكروا وقالوا: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:٢ - ٣]، أي: بعد أن نكون تراباً أنرجع مرة أخرى؟ هذا مستحيل.
وما وجه الاستحالة فيها إذا كان الله هو الذي خلقكم من عدم، وجعلكم تراباً وأوجدكم بهذا الخلق الذي تقرون به؟ وكيف تنكرونه وتتعجبون من أن يعيدكم الله مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير؟ هنا يقول سبحانه: ((أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ))، هل نخرج ونبعث ونحاسب مرة أخرى؟ هذا بعيد.
إن السبب في إنكارهم البعث هو: الأماني، فالإنسان عندما يحب أن يعمل المعصية، يتعامى ويتغافل عن الدار الآخرة، ولا يريد أن يذكره أحد بالبعث، أو الجنة والنار.
والكافر يريد أن يأكل ويشرب، ويأتي ما يشتهي من شهوات باطلة، ثم لا يسأله ولا يحاسبه أحد، فإذا ذكر بالآخرة، لا يريد أن يذكرها، فإذا قلت له: لا تفعل هذا وهو يريد أن يفعله، تغافل عن الدار الآخرة.
فاستنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٧]، وأي ملة هذه التي لم يسمعوا بها، وقد كان قبلهم النبي عيسى وموسى وإبراهيم ونوح وآدم عليهم السلام؟ فكلهم أخبروا العباد بأنهم ميتون، ومبعوثون إلى ربهم، وحذروهم من بطش ربهم سبحانه وتعالى.
أي ملة هذه التي يقولها هؤلاء الكفار، ويتكلمون عنها؟ وما الذي بأيديهم من آثار ومن علم حتى يزعموا ذلك؟ إنهم كذابون، وكما يقال: رمتني بدائها وانسلت، ومع ذلك يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر كذاب، فيختلفون الكذب ثم يرمون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
فقال الله تعالى هنا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} [النمل:٦٧]، فقد نظروا إلى أنفسهم وقالوا: نحن الآن على قيد الحياة، وآباؤنا أموات، فيذهب أحدهم إلى قبر، ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم برأس محطم لإنسان ميت، من زمن بعيد ويفتته بيده، ويقول له: أتزعم أن ربك يبعث هذه مرة ثانية؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعثها ويدخلك النار)، جزاء تكذيبك أيها الإنسان! فالله يحيي العظام بعد أن تكون رميماً.
قوله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:٦٧]، إذا جاء الاستفهام بهذه الصورة: (أَئِذَا)، و (أَئِنَّا) ففيه قراءات، فيقرأ هذه الآية نافع وأبو جعفر بالإخبار في الأولى، والاستفهام في الثانية، فتكون القراءة: (إذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون)، وعلى الوجوه التي يقرءون بها بالتسهيل وبالمد فيها، فـ قالون عن نافع يقرأها: (إذا متنا وكنا تراباً آئنا لمخرجون)، فيمدها، وكذلك أبو جعفر يمد في الثانية (آئنا) ويسهل فيها (أئنا).
يقرأها ورش كما يقرأها نافع وأبو جعفر، ولكن بدون مد فيقول: (إذا متنا وكنا تراباً أئنا لمخرجون).
ويقرأها ابن عامر والكسائي بالعكس في ذلك، فيستفهم في الأولى ويخبر في الثانية، فيقول: (أَئِذَا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وعلى أصول ابن عامر سيقرأها ابن ذكوان: (أئذا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وهشام يقرأ بالمد فيها: (آئذا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وباقي القراء يقرءونها بالاستفهام في الاثنين: (أئذا) و (أئنا)، وهو على أصولهم، فـ أبو عمرو وابن كثير يقرؤها: (أئذا متنا وكنا تراباً أئنا لمخرجون).
إذاً: باقي القراء يقرؤنها بالتحقيق في الهمزتين: (أئذا) (أئنا).
فهنا استفهام استنكاري من الكفار، يستنكرون كيف يموتون ويكونون تراباً، وعظاماً، ثم يرجعون مرة ثانية، إن هذا لرجع بعيد.
وقوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل:٦٨].
وذكر في سورة المؤمنون أيضاً: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} [المؤمنون:٨٣]، والقرآن يتفنن في السياق، فهنا يذكر بصيغة وهناك يذكر بصيغة، أخرى، فيقدم ويؤخر سبحانه وتعالى بما يتناسب مع السياق القرآني.
فقدم (هذا) هنا، وقال: ((لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا)) أي أنهم قالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعدنا بأنا سنبعث مرة أخرى، فإن آباءنا من قبل قيل لهم ذلك، ولم نر أحداً منهم بعث، فكأنهم ينظرون إلى الدنيا ويقولون: أين أجدادنا؟! لم لم يبعثوا؟! فهم يريدون من الله أن يميتهم ويبعثهم أمامهم حتى يؤمنوا بذلك.
قوله: (إِنْ هَذَا) أي: الوعد والكلام، ((إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، والأساطير: جمع أسطورة، والأسطورة: الكلام الخرافي المكتوب، أي: هذه خرافات قديمة كان يقولها السابقون، فهذا كله من أساطيرهم وخرافاتهم.