[قرب قيام الساعة]
ثم يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:١٧]، أي: ما يشعرك، وهل تدري ((لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ))؟ والساعة قريب كما أخبر الله سبحانه، وفي يوم القيامة يوم واحد بخمسين ألف سنة، وقال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:٤٧]، فعمر هذه الدنيا قصير، لا تنظر لمن يقول: إن عمر هذه الأرض خمسون مليون سنة أو مائة مليون سنة، فإن آدم لم يكن في الملايين التي يزعمونها هذه، فإن العمر من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا ألف وأربعمائة سنة.
فقولهم: إن الإنسان القديم من كذا مليون سنة، هذا من الكذب الذي يقولونه، فإن ما بين آدم وبين النبي صلى الله عليه وسلم آلاف من السنين، والله أعلم بها، فقد انقضت سنون من عهد آدم إلى عهد نبينا صلى الله عليه وسلم وصارت عبرة لمن يعتبرون، والآن نحن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بألف وأربعمائة سنة، والله قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)).
ولم يخبرنا سبحانه وتعالى عن الساعة، قال تعالى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:١٨٧]، وانظر إلى هذه الصفات التي يذكرها الله سبحانه، فالساعة قريبة جداً تنتظرونها كما ينتظر المولود من المرأة الحامل، حتى إذا امتلأ بطنها، واستمر بها حملها، وقرب شهر ولادتها إذا بهم ينتظرون نزول الجنين، قال تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:١٨٧]، الكل ينتظرون أهل السموات وأهل الأرض وكأنها المرأة الحامل المثقلة بحملها التي على وشك أن ينزل منها الجنين، قال تعالى: ((ثَقُلَتْ))، أي: ثقلت الساعة على أهل السماء والأرض، قال تعالى: ((لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً))، أي: لا تنزل ولا تأتي إلا بغتة.
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف:١٨٧]، أي: كأنك تكثر السؤال عنها، فمحمد صلى الله عليه وسلم لا يسأل إلا عما ينتفع به وتنتفع به الأمة، أما الساعة فالله أخبر أن علمها عنده سبحانه فهو لا يسأل، فقوله تعالى: ((كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا))، أي: كأنك تسأل كما هم يسألون عنها، وكأنك عليم بوقتها، قال تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:١٨٧]، فعلم الساعة عند الله سبحانه وتعالى.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بارزاً للناس، فسأله جبريل: ما الإيمان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث)، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:٢٨٥]، وقال تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥]، والمصير: هو اليوم الآخر، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩]، فهي ستة أصول للإيمان، فالكل يؤمنون بها.
فجبريل يسأل ليعلم الناس فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما الإيمان؟ فأخبره أن الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، وبلقائه، وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فهذه أصول الإسلام يخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، والصحابة لا يعرفون أنه جبريل، فجاء جبريل ليسأل فيتعلم أصول هذا الدين من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها منزلة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم أن السائل جبريل والمجيب النبي صلى الله عليه وسلم، والعادة كانت العكس، أن ينزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتاني جبريل بكذا وبكذا.
وهذه المرة جبريل في مكان المتعلم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب، ثم سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها).
إذاً: يعلم النبي صلى الله عليه وسلم علامات الساعة وأشراطها، أما وقتها فلا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها ستكون الساعة في يوم جمعة، ولا يعرف في أي شهر هذه الجمعة وفي أي سنة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها -أي: سيدها- وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولدت الأمة ربها)، يعني: تنسى الأحكام الشرعية فيقع الناس في الحرام وبسبب ذلك تلد الأمة ربها، أي: سيدها، كأن يكون إنسان اشترى أمة واستولدها سيدها، فيكون ابنها حراً ولا يكون عبداً، وإذا توفي السيد تصير الأمة حرةً؛ لأن ابنها أعتقها، والابن لا يجوز له أن يملك أمه، فهذه أمة يملكها هذا الرجل، والرجل وطأ الأمة فأنجبت له الأمة ابناً والابن حر كأبيه، والمرأة أمة كما هي، لأنه اشتراها بماله، أما الزوجة فقد دفع مهرها وأشهد عليها، وأخذها من وليها، فالزوجة شيء والأمة شيء آخر.
فهذه الأمة لما ولدت الحكم الشرعي أنه إذا توفي هذا السيد تصير هي حرة، والذي حررها هو ولدها؛ لأن الولد لما توفي الأب صار هو الوارث لجميع مال أبيه، والأمة من ضمن مال أبيه.
فصار الولد وارثاً للمال بما فيه الأمة، والأمة أمه، فلا يجوز له أن يملكها في الشريعة، فبمجرد ما انتقلت إلى ملك ابنها صارت حرة.
فإذا نسى الناس أحكام الشريعة، وبقي الأمر على ما كان في الجاهلية، أنَّ الولد يملك أمه فيأمرها وينهاها، فإن الساعة تأتي في مثل ذلك.
كذلك ينسى الإنسان الأحكام الشرعية فإذا بالسيد بعدما يطأ الأمة ويحبلها يبيعها، فإذا بها تلد الابن، فيأخذ الرجل ابنه ويبيع المرأة، ولا يحل له أن يبيعها، فإذا صارت لغيره ونسيت ابنها في يوم من الأيام فاشتراها ابنها؛ لأن هناك فرقاً بين المرأة وبين ابنها، فصار الابن يملك أمه، وهذا من أشراط الساعة.
شرط آخر: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان)، فترى الراعي يملك عمارة مائة طابق، يملك عمارة ناطحة السحاب، فالساعة قربت طالما أن هؤلاء الذين كانوا فقراء ومساكين ورعاة يتطاولون في البنيان، فهذه من علامات الساعة، وقد اقتربت الساعة.
وانظر إلى البلدان التي كانت في يوم من الأيام مراعي، وأهلها كانوا رعاة للغنم في الجزيرة وغيرها، صاروا أغنى الناس، وصار عندهم القصور العالية، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:٥٤]، وليس المعنى: أنه يحرم عليهم أن يملكوا، وإنما المعنى: أنه إذا انقلبت هذه الأوضاع فإن الساعة آتية، فصاروا يملكون ناطحات السحاب، وصاروا يملكون البيوت والعمارات في بلادهم وفي بلاد غيرهم، ويملك الرجل القرية في سويسرا وفي أمريكا، وغيرها من الدول.
فإذا صار الأمر على ذلك فانتظروا الساعة؛ لأن هذه من علامات الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رعاة الإبل البهم)، والبهم معناه: المجهولون الذين لم تكن لهم مكانة في يوم من الأيام، كانوا رعاة غنم والآن صاروا ملوكاً ورؤساء على الناس، فإذا صاروا كذلك فانتظروا الساعة.
والبهم كأنها صفة للإبل على الكسر فيها، أي: بهيمة الأنعام، ويسميها النبي صلى الله عليه وسلم (حمر النعم)، أي: الأنعام الحمراء، وهي أغلى وأنفس الأنعام عند أصحابها، والسوداء أقل الأنعام ثمناً، ومع ذلك فإن راعي الإبل يصير متطاولاً في البنيان، فهذه من أشراط الساعة في خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤].
هذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فأدبر الرجل بعد ما سمع ذلك ومشى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوه)، فأرادوا أن يردوه لكنهم ما وجدوه، وقد جاء إليهم في رواية مسلم: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد)، رجل غريب وثيابه نظيفة جداً شديدة البياض، وشعره أسود لا يرى عليه أثر سفر، قال: (ولا يعرفه منا أحد)، فهو آتٍ من قريب، ومع ذلك لا أحد يعرف هذا الإنسان، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ردوه)، وفطن له النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية حين انصرف فقال: (أتعلمون من السائل؟ قالوا: لا، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
أي: جاء جبريل يعلمكم أمر دينكم؛ لأنكم لم تسألوا عن هذه الأشياء المهمة، فجاء جبريل يسأل فأوضح لكم هذه الأشياء.
قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:٦٣]، أي: أن الساعة قريبة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: عائشة: (كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة) أما أهل الإيمان فلا يسألون عنها، لأن الساعة عند أهل الإيمان هي الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين).
فساعة كل إنسان ستأتيه، سواء جاءت الساعة الكب