[تفسير قوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل)]
قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:١٣] أي: أن الله يسخرهم وهم يصنعون له ما يريد، سواء أشياء لنفسه أم أمور ينتفع بها الناس.
قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ:١٣] المحراب: هو المكان الشريف والمقدم في أي مكان، ويطلق المحراب على المسجد، وعلى مقدم المسجد، وعلى الغرفة العالية، وعلى البناء العالي جداً، وعلى القصر العالي، كل هذا يطلق عليه المحراب، فكأن الله عز وجل سخرهم يبنون له ما يشاء من مساجد، وقصور، وأبنية عالية، وعلامات في الطريق، فيصنعون ذلك.
قال تعالى: ((يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ)) أي: يعملون له تماثيل، وهذا كان جائزاً في شريعته ولا يحل لنا في ديننا، فقد حرمه الله عز وجل علينا، ومن صور صورة من هذه الأمة يأمره الله عز وجل يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، ويعذبهم في نار جهنم سبحانه وتعالى حتى يفعل ذلك وما هو بفاعل، فجعل لسليمان عليه الصلاة والسلام الجن يصنعون له ذلك لحكمة منها أن تكون كعلامات للمكان، كأن يصور صور أناس ويريد بها شيئاً فالله أعلم بها، ولكن كان ذلك جائزاً في شريعة سليمان عليه الصلاة والسلام وليس جائزاً في شريعتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين، وذكر أن من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، يعني لا يقدر على ذلك.
قال سبحانه: {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:١٣].
الجواب والجوابي: جمع جابية، وفي قراءة يعقوب: (وجفان كالجوابي)، ومثلها قراءة ورش عند الوصل وكذلك أبي عمرو: (كالجوابي وقدور راسيات) في الوصل فقط، فإذا وقف عليها يقول: (كالجواب).
والجوابي جمع جابية، ومنها الجوبة: وهو المكان أو الشيء المقعر، فهي الحياض العظيمة التي تجتمع فيها الماء، فالجن يصنعون له الجفان: وهي جمع جفنة، والجفنة القدر الضخم جداً، يقول تعالى: ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) يعني: جفنة عظيمة جداً مثل الحوض الذي تأتي الإبل لكي تشرب منه، فيصنعونها في الأرض على الصخر حتى يصير كهيئة الوعاء الضخم، والجفنة: هي التي يوضع فيها الطعام، فكأنهم يصنعون له كهيئة الحوض العظيم الضخم، وليس حوضاً واحداً، بل حياضاً كثيرة لأجل أن يأكل منها جند سليمان وضيوفه.
وكل جفنة تسع عدداً كبيراً من الرجال، ومما ذكره المفسرون في ذلك أنها تسع ألف رجل يجلسون عليها، وهذا شيء عظيم وواسع جداً مما يصنعون فالله أعلم، ولكن الله عز وجل ذكر ضخامتها بهذه الصورة، فقال: ((وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ)) يعني: كالحوض والحياض العظيمة الواسعة، تصنعها الجن لسليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ((وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)) القدر: هو الحلة والإناء الذي يطبخ فيه، والقدر الذي عندنا نحمله فنذهب ونأتي به، لكن القدور التي يصنعها الجن قدور عظيمة جداً راسية على الأرض لا تتحرك من ثقلها، ومن عظيم هيئتها، فكونهم يصنعون له الحياض العظيمة أو الجفان التي كالجوابي، والقدور التي يطبخ فيها لأجل أن يوضع في هذه الحياض الأكل ليأكل الناس، يدل على وجود عدد كبير جداً من الناس يطعمون عند سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا مما أعطاه الله عز وجل وجل من الملك، وهذا من الشيء الذي يمدح عليه الإنسان، ويوصف بأنه كريم، إذ إن جفنته عظيمة وملآنة وضخمة جداً، وكان العرب فيهم ذلك، فلقد كان عبد الله بن جدعان له قدر عظيم يصعد إليه بسلم، وهذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يملؤها للحجيج، فيضع فيها لحماً كثيراً جداً، ومن أراد اللحم صعد على القدر بسلم لكي يأخذ منه.
إذاً الجفنة العظيمة دليل على كرم صاحبها، وكون سليمان عليه الصلاة والسلام يصنع هذه الجفان العظيمة أو يأمر بصنعها لإطعام الخلق من محتاجين وضيوف وغيرهم دليل على الكرم العظيم الذي كان عليه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.