[تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:١٦].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما لاعباً، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠] وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤].
أي: خلق الله عز وجل هذا كله وجعله آيات بينات معجزات لمن يعقل ويتفكر، أي: لأصحاب الألباب والقلوب السليمة والعقول المستقيمة.
وأولو الألباب يتفكرون ويقولون: سبحانك ما خلقت هذا باطلاً، فيعرف الإنسان أن هذه السماوات العظيمة وما فيها من الأفلاك العظيمة الكثيرة الواسعة، وهذه الأرض وما خلق الله عز وجل فيها، مستحيل أن يخلق هذا بهذه الدقة، وبهذا النظام العظيم لعباً ولهواً وعبثاً، حاشا لله سبحانه وتعالى وهو العليم الحكيم الحليم سبحانه.
والسماوات هذه التي لا نرى منها إلا السماء الدنيا، ولا نرى السماء كسماء حقيقة، وإنما نرى النجوم التي فيها؛ لأن السماء بعيدة عنها جداً، فدلنا الله عز وجل بهذه الأشياء القريبة إلينا، أن ننظر فيها ونتفكر فيها.
وما علاك وكان فوقك فهو سماؤك، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:٤٨]، أي: أنزله من السحاب الذي فوقنا لا من السماء حقيقة.
فالمتفكر في هذه السماوات يجدها سبع سماوات طباقاً، ما بين السماء والسماء خمسمائة عام، وسمك السماء الواحدة خمسمائة عام، والله سبحانه وتعالى جعل لنا السماء الدنيا لنتفكر فيها، وجعل النجوم مصابيح وحفظاً، ولنتدبر في خلق النجوم، وفي خلق الشمس، وفي خلق القمر، وفي خلق الأرض، من خلق هذه الأشياء؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما فوق ذلك وما تحت ذلك، ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.
فهذه الشمس هي أقرب الكواكب من هذه النجوم إلينا، هذه الشمس يصل إلينا ضوءها خلال ثمان دقائق، والمسافة التي بيننا وبينها حوالي مائة وخمسين مليون كيلو متراً، والضوء يقطع مائة وخمسين مليون كيلو متراً في حوالي ثمان دقائق وثلث دقيقة، هذا في الشمس، فيا ترى النجوم التي فوقها كم المسافة بيننا وبين هذه النجوم؟ يقولون: إن ضوء بعض النجوم يصل إلينا في حوالي أربع سنوات، فكم تكون المسافة بيننا وبين النجوم؟ فنحن عندما ننظر إلى النجم يكون النجم قد تحرك من مكانه، ولا نرى الموقع الذي هو فيه الآن، وهذه النجوم كم عددها؟ أيضاً هذه المجرة التي نحن فيها يسمونها مجرة درب التبانة، وهذه الأرض بما فيها هي جزء من هذه المجرة، فكم عدد المجرات، يقولون: ألف مليون مجرة، فهذه المجرة التي نحن فيها هي واحدة من ألف مليون مجرة، فكم في هذه المجرات من كوكب وشمس وقمر ونجم؟ أعداد كثيرة جداً، يذكر العلماء أنها تحوي أكثر من مائة ألف مليون نجم في المجرة الواحدة، فإذا قلنا: كم في الأرض من مخلوقات: من أشجار وأنهار وبحار وجبال وطير وحشرات وإنسان وجان وملائكة؟ أحصى الله عز وجل كل شيء عدداً، وباقي هذه الكواكب والنجوم أحصى كل ما فيها من خلق لا نعلمه ويعلمه هو سبحانه وتعالى.
هذا في السماء الدنيا، أما السماوات السبع التي تكلم ربنا عنها فيا ترى كم فيها من المخلوقات؟! فالله خلق هذا كله ويعلم ما فيه ويحصي كل شيء عدداً، فهل خلق ذلك لعباً ولهواً وغفلة؟ قال تعالى حاكياً عن عباده المؤمنين: {رَبنْا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩١].
هذا الذي ينبغي أن يقوله الإنسان، لذلك أمرنا بأن نتفكر في المخلوقات، فقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله).
أي: تفكروا في نعم الله عز وجل عليكم، وفيما خلق لكم من أشياء وتفضل وأنعم بها عليكم، تفكروا في هذه الآلاء وفي هذه النعم، ولا تتفكروا في الله، من الذي يتفكر بالله ويحيط بالله عز وجل علماً؟! تفكر في آلاء الله؛ حتى تستدل على قدرة الله العظيمة الباهرة، وتعرف حقارة المخلوق كيف أنه يرى هذه النعم العظيمة، ويرى هذه الآيات الباهرة والقدرة القاهرة، ويرى في هذا الكون العظيم آيات رب العالمين، ومع ذلك يكفر بالله ويشرك بالله، فقال الله عز وجل لنا هنا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:١٦].