[تفسير قوله تعالى: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه)]
ثم أخبر الله عن نفسه سبحانه، وعن فضله على عباده، وعن قوته وقدرته سبحانه، فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:٦١] فالله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فعبر عن ألوهيته بلفظ الجلالة (الله)؛ لأنه يفرد بالعبادة سبحانه، وعبر عن ربوبيته بقدرته سبحانه وخلقه وصنعه لهذه الأشياء، فالله هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، وكلمة (جعل) تأتي بمعان: فمن معانيها: الخلق، وهذا هو المقصود هنا، وقد تأتي بمعنى التصدير، أي: تصدير الشيء كذا، فإذا تعدت لمفعول واحد فهي بمعنى الخلق، وإذا تعدت لأكثر من مفعول فلها معنى آخر كما يذكر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣]، وهنا ليس معناها الخلق، فقد تعدت لمفعولين، والمعنى أي: جعله لتفهموه ولتعملوا به، فجعله لكم قرآناً عربياً، وهو كلامه سبحانه وتعالى، وهو صفة من صفاته سبحانه، فجعل الكلام عربياً لتفهموه، وقد خلق جميع الألسنة التي يتكلم بها الخلق فكلام الخلق مخلوق، وأما كلام الخالق سبحانه فهو صفة من صفاته.
و (جعل) في هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [غافر:٦١] بمعنى الخلق، أي: خلق لكم الليل وخلق لكم النهار، فخلق لكم الليل رحمة بكم لتسكنوا فيه، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:٦١]، رحمة من الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:٤٧].
ومن رحمته سبحانه أنه علم ضعف خلقه، والخلق لا يقدرون أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا والواحد منهم مستيقظ دائماً، فلا يطيق ذلك ولا يقدر، فلو أن إنساناً ظل مستيقظاً أياماً كثيرة فقد يموت من عدم النوم، فجعل الله للعباد ما يتمكنون فيه من النوم، وما يتمكنون فيه من الخروج للمعاش، فجعل الليل سكناً ولباساً يغشيهم ويغطيهم ويخفيهم ويسترهم، فيقدر الرجل في الليل أن يختبئ في بيته، وأن يختفي عن الخلق، وأن يأتي ويعاشر أهله في خفاء عن غيرهم من الخلق، فيستر الله عز وجل عباده، وجعل {َالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان:٤٧]، أي: تنامون نوماً عميقاً فتستريحون بهذا النوم، وتقدرون على العمل بعد ذلك.
{وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:٤٧]، أي: أحياكم بعد ما أماتكم في هذا الليل، فقمتم من نومكم وقد أخذتم قسطاً من الراحة، فنشركم الله سبحانه، أي: أعادكم مرة أخرى لليقظة وللحياة.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيْه} [غافر:٦١]، أي: من أجل أن تسكنوا فيه، فالسكون هو الهدوء، والعشرة، ويسكن الرجل إلى أهله، ويسكن إلى بيته، فجعل الليل لكم سكناً.
قال تعالى: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [غافر:٦١]، أي: شديد الإضاءة، ففي النهار تشتد الإضاءة الناتجة من الشمس التي خلقها الله عز وجل للعباد، فجعل النهار يبصر فيه العباد، ومن شدة إضاءته كان النهار نفسه الذي يبصر، والمعنى: أنه جعل لكم النهار لتبصروا فيه وتعرفوا مصالحكم، وينظر بعضكم إلى بعض، وهو آية من آيات الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:٦١]، دائماً يكون التعبير بالألوهية والربوبية؛ لبيان أن الرب هو الله المستحق للعبادة وحده، والمشركون كانوا يفرقون بين ذلك، فالربوبية يصرفونها لله، فلو سألهم سائل من خلق السماوات والأرض؟ لقالوا: الله، والألوهية يصرفونها لغير الله، فلو سألهم سائل من تعبدون؟ لقالوا: غير الله.
فيخبر الله عن ربوبيته، فالرب هو الذي يخلق: فقد خلق السماوات، والأرضين، والليل والنهار، والإنسان، فالله هو الذي يخلق والذي يصنع ويفعل، قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:١٧]، أي: الذي يخلق تتركونه وتعبدون من لا يخلق، فهل يستوي الخالق مع المخلوق سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً؟! فلفظ الجلالة (الله) من معانيه: أنه المعبود الذي يعبد سبحانه وتعالى، فالله هو المستحق لأن يؤله ويعبد سبحانه وتعالى، وهو هذا الرب الذي خلق والذي رزق والذي سوى كل شيء سبحانه.
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:٦١] أي: إن الله سبحانه وتعالى صاحب الفضل العظيم، فقد تفضل على عباده فأعطاهم وأوجدهم، وتفضل عليهم فأعطاهم ما يسكنون فيه، وما يتنعمون به، وما يعيشون فوقه، وجعل لهم الجنة جزاءً على حسن العمل، وجعل العقوبة بالنار جزاءً على الإساءة.
قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:٦١]، فكل الناس يعرفون نعمة الله عز وجل عليهم، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:١٨]، فهو رءوف بالعباد فأعطاهم النعم، ولكن الإنسان ظلوم وكفار، يظلم نفسه ويجحد نعم الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:٦١]، فالقلة من الناس هم الذين يؤمنون، والكثير من الناس يغويهم الشيطان فلا يشكرون ربهم تبارك وتعالى.
قال تعالى: {َإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣]، فالأكثر من الناس في غفلة عن ربهم وعن نعم ربهم سبحانه، فإذا أعطاهم لا يشكرون، وإذا تفضل عليهم سبحانه لا يعرفونه، ولا يرجعون الفضل إليه، ولعل الإنسان ينسب الفضل إلى نفسه فيقول: بذكائي، وبقدرتي، وبكدي، وبتعبي، وبجهدي، فينسب لنفسه ما أعطاه الله سبحانه، فلا يشكر نعمة الله.
لكن الإنسان المؤمن يحمد ربه ويشكره في كل أحواله، قال عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فالمؤمن في كل أوقاته حامد لربه شاكر له، صابر على ما ابتلاه به.